القائمة الرئيسية

الصفحات

تاريخ موت عمر ابن الخطاب ومبلغ سنه




تاريخ موته ومبلغ سنه:


قال
الذهبي: استشهد يوم الأربعاء لأربع أو ثلاث بقين من ذي الحجة، سنة ثلاث وعشرين من
الهجرة، وهو ابن ثلاث وستين سنة على الصحيح[54]،
وكانت خلافته عشر سنين ونصفاً وأياماً[55]،
وجاء في تاريخ أبي زرعة عن جرير البجلي قال: كنت عند معاوية فقال: توفي رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين، وتوفي أبو بكر –رضي الله عنه- وهو ابن ثلاث
وستين وقتل عمر –رضي الله عنه- وهو ابن ثلاث وستين[56].


2- في غسله والصلاة عليه ودفنه:


عن عبد
الله بن عمر -رضي الله عنه- غسل وكُفِّن، وصلي عليه، وكان شهيداً[57]،
وقد اختلف العلماء فيمن قتل مظلوماً هل هو كالشهيد لا يغسل أم لا؟ على
قولين:


أحدهما: أنه يغسل، وهذا حجة لأصحاب هذا القول[58].


والثاني: لا يغسل ولا يصلى عليه، والجواب عن قصة عمر أن عمر عاش بعد أن
ضرب وأقام مدة، والشهيد حتى شهيد المعركة لو عاش بعد أن ضرب حتى أكل وشرب أو طال
مقامه فإنه يغسل، ويصلى عليه، وعمر طال مقامه حتى شرب الماء، وما أعطاه الطبيب،
فلهذا غسل وصلي عليه رضي الله عنه[59].


3- من صلى عليه؟


قال
الذهبي: صلى عليه صهيب بن سنان[60]،
وقال ابن سعد: وسأل علي بن الحسين سعيد بن المسيب: من صلى على عمر؟ قال: صهيب، قال
كم كبر عليه؟ قال: أربعاً، قال: أين صُلي عليه؟ قال: بين القبر والمنبر[61]،
وقال ابن المسيب: نظر المسلمون فإذا صهيب يصلي لهم المكتوبات بأمر عمر رضي الله عنه
فقدموه، فصلى على عمر[62]،
ولم يقدم عمر رضي الله عنه أحداً من الستة المرشحين للخلافة حتى لا يظن تقديمه
للصلاة ترشيحاً له من عمر، كما أن صهيباً كانت له مكانته الكبيرة عند عمر والصحابة
رضي الله عنهم وقد قال في حقه الفاروق: نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه[63].


4- في دفنه رضي الله عنه:


قال
الذهبي: دفن في الحجرة النبوية[64]،
وذكر ابن الجوزي عن جابر قال: نزل في قبر عمر عثمان وسعيد بن زيد، وصهيب، وعبد الله
بن عمر[65]،
وعن هشام بن عروة قال: لما سقط عنهم –يعني قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر
وعمر -رضي الله عنهما- في زمن الوليد بن عبد الملك[66]
أخذوا في بنائه، فبدت لهم قدمٌ، ففزعوا، وظنوا أنها قدم النبي صلى الله عليه وسلم
فما وجدوا أحداً يعلم ذلك، حتى قال لهم عروة: لا والله ما هي قدم النبي صلى الله
عليه وسلم ما هي إلا قدم عمر -رضي الله عنه[67]-
وقد مرّ معنا: أن عمر أرسل إلى عائشة –رضي الله عنهما- ائذني لي أن أُدفن مع صاحبي،
فقالت: أي والله وقال هشام بن عروة بن الزبير: وكان الرجل إذا أرسل إليها -أي
عائشة- من الصحابة قالت: لا والله لا أؤثرهم بأحد أبداً[68]،
ولا خلاف بين أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر -رضي الله
عنهما- في هذا المكان من المسجد النبوي على صاحبه أفضل الصلاة والسلام[69].


5- ما قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه في
الفاروق:


قال
ابن عباس: وضع عمر على سريره فتكنفه الناس يدعون ويصلون، قبل أن يرفع، وأنا فيهم،
فلم يَرُعني إلا رجل آخذ منكبي، فإذا علي بن أبي طالب، فترحم على عمر وقال: ما خلفت
أحداً أحبّ إليَّ أن ألقى الله بمثل عمله منك، وأيم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله
مع صاحبيك وحسبت أني كنت كثيراً أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ذهبت أنا وأبو
بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر[70].


6- أثر مقتله على المسلمين:


كان
هول الفاجعة عظيماً على المسلمين، فلم تكن الحادثة بعد مرض ألمَّ بعمر، كما كان
يزيد من هولها في المسجد وعمر يؤم الناس لصلاة الصبح، ومعرفة حال المسلمين بعد وقوع
الحدث يطلعنا على أثر الحادث في نفوسهم، يقول عمرو بن ميمون: .. وكأن الناس لم
تصبهم مصيبة قبل يومئذ، ويذهب ابن عباس ليستطلع الخبر بعد مقتل عمر ليقول له: إنه
ما مرّ بملأ إلا وهم يبكون وكأنهم فقدوا أبكار أولادهم[71]،
لقد كان عمر -رضي الله عنه- معلماً من معالم الهدى، وفارقا بين الحق والباطل فكان
من الطبيعي أن يتأثر الناس لفقده[72]،
وهذا الأثر يوضح شدة تأثر الناس عليه، فعن الأحنف بن قيس: قال
فلما
طعن عمر أمر صهيباً أن يصلي بالناس، ويطعمهم ثلاثة أيام حتى يجتمعوا على رجل، فلما
وضعت الموائد كف الناس عن الطعام، فقال العباس: يا أيها الناس إن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قد مات، فأكلنا بعده، وشربنا ومات أبو بكر -رضي الله عنه-، فأكلنا،
وإنه لا بد للناس من الأكل والشرب، فمد يده فأكل الناس[73].


وكان
عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عندما يذكر له عمر يبكي حتى تبتل الحصى من دموعه
ثم يقول: إن عمر كان حصناً للإسلام يدخلون فيه ولا يخرجون منه، فلما مات انثلم
الحصن فالناس يخرجون من الإسلام[74].


وأما
أبو عبيدة بن الجراح، فقد كان يقول قبل أن يقتل عمر: إن مات عمر رق الإسلام، ما أحب
أن لي ما تطلع عليه الشمس أو تغرب وأن أبقى بعد عمر، فقيل له: لم؟ قال: سترون ما
أقول إن بقيتم، وأما هو فإن ولي وال بعد فأخذهم بما كان عمر يأخذهم به لم يطع له
الناس بذلك ولم يحملوه، وإن ضعف عنهم قتلوه[75].


خامساً: أهم الفوائد والدروس والعبر:


1- التنبيه على الحقد الذي انطوت عليه قلوب الكافرين ضد
المؤمنين:


ويدل
على ذلك قتل المجوسي أبي لؤلؤة لعمر رضي الله عنه، وتلك هي طبيعة الكفار في كل زمان
ومكان، قلوب لا تضمر للمسلمين إلا الحقد والحسد والبغضاء، ونفوس لا تكن للمؤمنين
إلا الشر والهلاك والتلف، ولا يتمنون شيئاً أكثر من ردة المسلمين عن دينهم وكفرهم
بعد إسلامهم[76]،
وإن الذي ينظر جيداً في قصة مقتل عمر -رضي الله عنه- وما فعله المجوسي الحاقد أبو
لؤلؤة يستنبط منها أمرين مهمين، يكشفان الحقد الذي أضمره هذا الكافر في قلبه تجاه
عمر، وتجاه المسلمين، وهما:


أ‌-   أنه قد
ثبت في الطبقات الكبرى لابن سعد بسند صحيح إلى الزهري[77]،
أن عمر رضي الله عنه قال لهذا المجوسي ذات يوم: ألم أُحدّث أنك تقول: لو أشاء لصنعت
رحى تطحن بالريح، فالتفت إليه المجوسي عابساً، لأصنعن لك رحى يتحدث الناس بها،
فأقبل عمر على من معه، فقال: توعدني العبد.


ب‌-  الأمر
الثاني الذي يدل على الحقد الذي امتلأ به صدر هذا المجوسي أنه لمّا طعن عمر رضي
الله عنه، طعن معه ثلاثة عشر صحابياً استشهد منهم سبعة جاء في رواية الإمام البخاري
قوله: فطار العلج[78]
بسكين ذات طرفين لا يمر على أحد يميناً ولا شمالاً إلا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشر
رجلاً، مات منهم سبعة[79]،
ولو كان عمر -رضي الله عنه- ظالماً له فما ذنب بقية الصحابة الذين اعتدى عليهم؟!،
ومعاذ الله تعالى أن يكون عمر ظالماً له، إذ قد ثبت في رواية البخاري أنه لما طعن
رضي الله عنه قال: يا ابن عباس، انظر من قتلني، فجال ساعة ثم جاء فقال: غلام
المغيرة، قال: الصَنَع؟ أي: الصانع، قال: نعم، قال: قاتله الله، لقد أمرت به
معروفاً، الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل يدعي الإسلام[80]،
وهذا المجوسي أبو لؤلؤة قام أحبابه أعداء الإسلام ببناء مشهد تذكاري له على غرار
الجندي المجهول في إيران يقول السيد حسين الموسوي من علماء النجف: واعلم أن في
مدينة كاشان الإيرانية، في منطقة تسمى باغي فين مشهداً على غرار الجندي المجهول،
فيه قبر وهمي لأبي لؤلؤة فيروز الفارسي المجوسي، قاتل الخليفة الثاني عمر بن
الخطاب، حيث أطلقوا عليه ما معناه بالعربية مرقد بابا شجاع الدين، وبابا شجاع الدين
هو لقب أطلقوه على أبي لؤلؤة لقتله عمر بن الخطاب، وقد كتب على جدران هذا المشهد
بالفارسي: مرك بر أبو بكر، مرك بر عمر، مرك بر عثمان ومعناه بالعربية: الموت لأبي
بكر، الموت لعمر، الموت لعثمان وهذا المشهد يُزار من قبل الشيعة الإيرانيين، وتُلقى
فيه الأموال، والتبرعات، وقد رأيت هذا المشهد بنفسي، وكانت وزارة الإرشاد الإيرانية
قد باشرت بتوسيعه وتجديده، وفوق ذلك قاموا بطبع صورة على المشهد على كارتات تستخدم
لإرسال الرسائل والمكاتيب[81].


2- بيان الانكسار والخشية والخوف الذي تميز به عمر رضي الله
عنه:


ومما
يدل على هذا الخوف الذي سيطر على قلب عمر رضي الله عنه قبيل استشهاده قوله لما
عَلِمَ أن الذي طعنه هو المجوسي أبو لؤلؤة: الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل
يدعي الإسلام[82]،
فإنه رغم العدل الذي اتصف به عمر رضي الله عنه، والذي اعترف به القاصي والداني،
والعربي والعجمي، إلا أنه كان خائفاً أن يكون قد ظلم أحداً من المسلمين، فانتقم منه
بقتله، فيُحاجَّه عند الله تعالى، كما تدل على ذلك رواية ابن شهاب: أن عمر قال:
الحمد لله الذي لم يجعل قاتلي يحاجني عند الله بسجدة سجدها له قط، وكما تدل عليه
كذلك رواية مبارك بن فضالة، يحاجني بقول: لا إله إلا الله[83]،
وهذه عجيبة من عجائب هذا الإمام الرباني، ينبغي أن يتربى عليها الدعاة والمصلحون
وأن يكون الانكسار علامة من أكبر علاماتهم حتى ينفع الله تعالى بهم، كما نفع
بأسلافهم كعمر
-رضي الله عنه- وليكن مقال الجميع قول
القائل:













واحسرتي، واشقوتي
واطُول حزني إن أكن
وإذا سُئلتُ عن
الخطا
واحرّ قلبي أن يكون
كلا ولا قدّمتُ لي
بل إنني لشقاوتي
بارزت
بالزلات في
من ليس يخفى عنه من







مِنْ يوم نشر كتابيه
أوتيته بشماليه
ماذا يكون جوابيه؟
مع
القلوب القاسية
عملاً ليوم حسابيه
وقساوتي وعذابيه
أيام دهر خالية
قبح
المعاصي خافية[84]







3- التواضع الكبير عند الفاروق والإيثار العظيم
عند السيدة عائشة:


التواضع الكبير عند الفاروق رضي الله عنه:


وقد دل
عليه من قصة استشهاده قوله لابنه عبد الله: انطلق إلى عائشة أم المؤمنين، فقل: يقرأ
عليك عمر السلام، ولا تقل: أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين أميراً[85]،
ويدل عليه كذلك قوله لابنه لما أذنت عائشة بدفنه إلى جنب صاحبيه: فإذا أنا قضيت
فاحملوني، ثم سلِّمْ، فقل: يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أذنت لي فأدخلوني، وإن ردتني
فردوني إلى مقابر المسلمين[86]،
فرحم الله عمر -رضي الله عنه-، ورزقنا خُلُقاً من خُلُقه، وتواضعاً من تواضعه،
وجزاه خير ما يجزي به الأتقياء المتواضعين، إن ربي قريب مجيب[87].


أ‌-          الإيثار العظيم عند السيدة عائشة رضي الله
عنها:


ومما
يدل على الإيثار عند السيدة عائشة أنها رضي الله عنها كانت تتمنى أن تدفن بجوار
زوجها صلى الله عليه وسلم، وأبيها أبي بكر، فلما استأذنها عمر لذلك أذنت وآثرته على
نفسها وقالت: كنت أريده لنفسي، ولأوثرنه اليوم على نفسي[88].


4 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو على فراش
الموت:


إن
اهتمام الفاروق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يتخل عنه حتى وهو يواجه الموت
بكل آلامه وشدائده، ذلك أن شاباً دخل عليه لما طُعن، فواساه، وقال: أبشر يا أمير
المؤمنين ببشرى الله لك، من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقَدَم في الإسلام
ما قد علمت، ثم وُلِّيت فعدلت، ثم شهادة، قال 
-أي عمر- ودِدْت أن ذلك كفاف، لا عليّ ولا لي، فلما أدبر إذا إزاره يَمسُّ
الأرض، قال رُدُّوا عليّ الغلام، قال: يا ابن أخي، ارفع ثوبك فإنه أنقَى لثوبك
وأتقى لربك[89]،
وهكذا لم يمنعه -رضي الله عنه- ما هو فيه من الموت عن الأمر بالمعروف ولذا، قال ابن
مسعود -رضي الله عنه- فيما رواه عُمر بن شبة: يرحم الله عمر لم يمنعه ما كان فيه من
قول الحق[90]،
ومن عنايته الفائقة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه الحالة أيضاً، لما
دخلت عليه حفصة -رضي الله عنها- فقالت: يا صاحب رسول الله، ويا صهر رسول الله، ويا
أمير المؤمنين، فقال عمر لابن عمر رضي الله عنهما: يا عبد الله: أجلسني فلا صبر لي
على ما أسمع، فأسنده إلى صدره، فقال لها: إنّي أحرج عليك[91]
بمالي عليك من الحق أن تندبيني[92]،
بعد مجلسك هذا، فأما عينك فلن أملكها[93]،
وعن أنس بن مالك قال: لما طُعن عمر صرخت حفصة فقال عمر: يا حفصة أما سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول: إن المعول عليه يعذب؟ وجاء صُهَيب فقال: واعمراه فقال:
ويلك يا صهيب أما بلغك أن المعول عليه يعذب[94]،
ومن شدته في الحق رضي الله عنه حتى بعد طعنه وسيلان الدم منه فعندما قال له رجل:
استخلف عبد الله بن عمر، قال: والله ما أردت الله بهذا[95].


5- جواز الثناء على الرجل بما فيه إذا لم تُخْشَ عليه
الفتنة:


كما هو
الحال هنا مع عمر -رضي الله عنه-، إذ أُثني عليه من قِبل بعض الصحابة لأنهم كانوا
يعلمون أن الثناء عليه لا يفتنه، قال ابن عباس رضي الله عنهما وهو العالم الرباني
والفقيه الكبير: أليس قد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعز بك الدين
والمسلمين؛ إذ يخافون بمكة، فلما أسلمت كان إسلامك عزاً وظهر بك الإسلام..، وأدخل
الله بك على كل أهل بيت من توسعتهم في دينهم، وتوسعتهم في أرزاقهم، ثم ختم لك
بالشهادة، فهنيئاً لك وهكذا لم تؤثر هذه الكلمات في قلب عمر شيئاً، ولم يفرح بها،
ولذا ردّ على ابن عباس قائلاً: والله إن المغرور من تغرونه[96].


6- حقيقة موقف كعب الأحبار من مقتل عمر رضي الله
عنه:


كعب
الأحبار هو كعب بن مانع الحميري، كنيته أبو إسحاق، واشتهر بكعب الأحبار، أدرك النبي
صلى الله عليه وسلم وهو رجل وأسلم في خلافة عمر، سنة اثنتي عشرة[97]،
وقد اشتهر قبل إسلامه بأنه كان من كبار علماء اليهود في اليمن، وبعد إسلامه أخذ عن
الصحابة الكتاب والسنة، وأخذوا وغيرهم عنه أخبار الأمم الغابرة خرج إلى الشام، وسكن
حمص وتوفي فيها[98]،
وقد اتهم كعب الأحبار في مؤامرة قتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فقد جاءت رواية في
الطبري عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه تشير إلى اتهامه في مقتل عمر جاء في تلك
الرواية: .. ثم انصرف عمر إلى منزله، فلما كان من الغد جاءه كعب الأحبار فقال له:
يا أمير المؤمنين، إعهد فإنك ميت في ثلاثة أيام، قال وما يدريك؟ قال: أجده في كتاب
الله عز وجل التوراة، قال عمر: آلله إنك لتجد عمر بن الخطاب في التوراة؟ قال: اللهم
لا ولكني أجد صفتك وحليتك وأنه قد فني أجلك قال: وعمر لا يحس وجعاً ولا ألماً فلما
كان من الغد جاءه كعب، فقال: يا أمير المؤمنين ذهب يوم وبقي يوم وليلة؛ وهي لك إلى
صبيحتها، قال: فلما كان الصبح، خرج إلى الصلاة، وكان يوكل بالصفوف رجالاً، فإذا
استوت، جاء هو فكبر، قال: ودخل أبو لؤلؤة في الناس، في يده خنجر له رأسان نصابه في
وسطه، فضرب عمر ست ضربات، إحداهن تحت سرته، وهي التي قتلته[99]،
وقد بنى بعض المفكرين المحدثين على هذه الرواية نتيجة، مفادها: اشتراك كعب الأحبار،
في مؤامرة قتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه مثل د. جميل عبد الله
المصري في كتابه: أثر أهل الكتاب في الفتن والحروب الأهلية في القرن الأول الهجري،
وعبد الوهاب النجار في كتابه: الخلفاء الراشدون، والأستاذ غازي محمد فريج في كتابه:
النشاط السري اليهودي في الفكر والممارسة[100]،
وقد ردّ الدكتور أحمد بن عبد الله بن إبراهيم الزّغيبي على الاتهام الموجه لكعب
الأحبار فقال: والذي أراه في هذه القصة المعقدة: أن تلك الرواية، التي رواها الإمام
الطبري رحمه الله تعالى غير صحيحة، لأمور كثيرة من أهمها:


أ- أن
هذه القصة لو صحت لكان من المنتظر من عمر رضي الله عنه أن لا يكتفي بقول كعب، ولكن
لجمع طائفة ممن أسلم من اليهود وله إحاطة بـالتوراة مثل عبد الله بن سلام، ويسألهم
عن هذه القصة، وهو لو فعل لافتضح أمر كعب، وظهر للناس كذبه، ولتبين لعمر رضي الله
عنه أنه شريك في مؤامرة دبرت لقتله، أو أنه على علم بها، وحينئذ يعمل عمر رضي الله
عنه على الكشف عنها بشتى الوسائل، وينكل بمدبريها، ومنهم كعب، هذا هو المنتظر من أي
حاكم، فضلاً عن عمر رضي الله عنه المعروف بكمال الفطنة، وحدة الذهن، وتمحيص الأخبار
لكن شيئاً من ذلك لم يحصل، فكان ذلك دليلاً على اختلاقها[101].


ب- أن
هذه القصة لو كانت في التوراة، لما اختص بعلمها كعب رحمه الله تعالى وحده، ولشاركه
العلم بها كل من له علم بـالتوراة من أمثال عبد الله بن سلام رضي الله عنه[102].


جـ- أن
هذه القصة لو صحت أيضاً لكان معناها أن كعباً له يد في المؤامرة وأنه يكشف عن نفسه
بنفسه، وذلك باطل لمخالفته طباع الناس، إذ المعروف أنه من اشترك في مؤامرة، يبالغ
في كتمانها بعد وقوعها، تفادياً من تحمل تبعاتها، فالكشف عنها قبل وقوعها لا يكون
إلا من مغفل أبله، وهذا خلاف ما كان عليه كعب، من حدة الذهن، ووفرة الذكاء[103].


د- ثم
ما لـالتوراة وتحديد أعمار الناس؟ إن الله تعالى إنما أنزل كتبه هدى للناس، لا لمثل
هذه الأخبار التي لا تعدو أصحابها[104].


و- ثم
أيضاً هذه التوراة بين أيدينا ليس فيها شيء من ذلك مطلقاً وبعد أن أورد الشيخ محمد
محمد أبو زهو[105]
تلك الاعتراضات الأربعة الأولى، عقب عليها، بقوله: ومن ذلك كله، يتبين لك أن هذه
القصة مفتراة، بدون أدنى اشتباه، وأن رمي كعب بالكيد للإسلام في شخص عمر، والكذب في
النقل عن التوراة اتهام باطل، لا يستند على دليل أو برهان[106].


ويقول
الدكتور محمد السيد حسين الذهبي رحمه الله: ورواية ابن جرير الطبري للقصة لا تدل
على صحتها، لأن ابن جرير كما هو معروف عنه لم يلتزم الصحة في كل ما يرويه، والذي
ينظر في تفسيره يجد فيه مما لا يصح شيئاً كثيراً[107]،
كما أن ما يرويه في تاريخه لا يعدو أن يكون من قبل الأخبار التي تحتمل الصدق
والكذب، ولم يقل أحد بأن كل ما يروى في كتب التاريخ[108]،
ثابت وصحيح[109]،
ثم يتابع قائلاً: ثم إن ما يعرف عن كعب الأحبار من دينه، وخلقه، وأمانته، وتوثيق
أكثر أصحاب الصحاح[110]
له، يجعلنا نحكم بأن هذه القصة موضوعة عليه، ونحن ننزه كعباً عن أن يكون شريكاً في
قتل عمر، أو يعلم من يدبر أمر قتله ثم لا يكشف لعمر عنه، كما ننزهه أن يكون كذاباً
وضاعاً، يحتال على تأكيد ما يخبر به من مقتل عمر نسبته إلى التوراة وصوغه في قالب
إسرائيلي[111].
إلى أن يقول: اللهم إن كعباً مظلوم من متهميه، ولا أقول عنه: إلا أنه ثقة مأمون،
وعالم استغل اسمه، فنسب إليه روايات معظمها خرافات وأباطيل، لتروج بذلك على العامة،
ويتقبلها الأغمار من الجهلة[112].


وأما
الدكتور محمد السيد الوكيل فيقول: إن أول ما يواجه الباحث هذا هو موقف عبيد الله بن
عمر الذي لم يكد يسمع بما حدث لأبيه حتى يحمل سيفه، ويهيج كالسبع الحرب، ويقتل
الهرمزان وجفينة وابنة صغيرة لأبي لؤلؤة؛ أفترى عبيد الله هذا يترك كعب الأحبار
والشبهة تحوم حوله، ويقتل ابنة أبي لؤلؤة الصغيرة؟ إن أحداً يبحث الموضوع بحثاً
علمياً لا يمكن أن يقبل ذلك، ويضاف إلى ذلك أن جمهور المؤرخين لم يذكروا القصة، بل
لم يشيروا إليها، فابن سعد في الطبقات وقد فصل الحادث تفصيلاً دقيقاً لم يشر قط إلى
الحادثة، بل كل ما ذكر عن كعب الأحبار أنه كان واقفاً بباب عمر يبكي ويقول: والله
لو أن أمير المؤمنين يقسم على الله أن يؤخره لأخره[113]،
وأنه دخل على عمر بعد أن أخبره الطبيب بدنوا أجله فقال: ألم أقل لك إنك لا تموت إلا
شهيداً، وأنت تقول: من أين وأنا في جزيرة العرب[114]،
ويأتي بعد ابن سعد ابن عبد البر في الاستيعاب فلا يذكر شيئاً قط عن قصة كعب
الأحبار[115]،
وأما ابن كثير فيقول: إن وعيد أبي لؤلؤة كان عشية يوم الثلاثاء، وأنه طعنه صبيحة
يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة[116]،
لم يكن إذن بين التهديد والتنفيذ سوى ساعات معدودات، فكيف ذهب كعب الأحبار إلى عمر،
وقال له ما قال: اعهد فإنك ميت في ثلاثة أيام، ثم يقول: مضى يوم وبقي يومان، ثم مضى
يومان وبقي يوم وليلة، من أين لكعب هذه الأيام الثلاثة إذا كان التهديد في الليل
والتنفيذ صبيحة اليوم التالي؟ ويتوالى المؤرخون، فيأتي السيوطي في تاريخ الخلفاء،
والعصامي في سمط النجوم العوالي، والشيخ محمد بن عبد الوهاب، وابنه عبد الله في
كتابيهما مختصرة سيرة الرسول، وحسن إبراهيم حسن في تاريخ الإسلام السياسي وغيرهم
فلا نجد واحداً منهم يذكر القصة من قريب أو بعيد. أليس هذا دليلاً على أن القصة لم
تثبت بصورة تجعل المحقق يطمئن إلى ذكرها هذا إذا لم تكن منتحلة مصنوعة كاد بها بعض
الناس لكعب لينفروا منه المسلمين، وهذا ما تطمئن إليه النفس ويميل إليه القلب،
وبخاصة بعد ما عرفنا أن كعباً كان حسن الإٍسلام، وكان محل ثقة كثير من الصحابة حتى
رووا عنه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم[117].


7- ثناء الصحابة والسلف على الفاروق:


أ- في تعظيم عائشة رضي الله عنها له بعد دفنه:


عن
عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أدخل بيتي الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم
وسلم وأبي، فلما دفن عمر معهما فوالله ما دخلته إلا وأنا مشدودة علي ثيابي حياء من
عمر[118]،
وعن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: من رأى ابن الخطاب، علم أنه خلق
غناء للإسلام، كان والله أحوذياً[119]،
نسيج وحده، قد أعد للأمور أقرانها[120]،
وعن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: إذا ذكرتم عمر طاب المجلس[121].


ب- سعيد بن زيد رضي الله عنه:


روي عن
سعيد بن زيد أنه بكى عند موت عمر فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: على الإسلام، إن موت عمر
ثَلَم الإسلام ثلمة لا ترتق إلى يوم القيامة[122].


ت- عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:


قال
عبد الله بن مسعود: لو أن علم عمر بن الخطاب وضع في كفة الميزان، ووضع علم الأرض في
كفة لرجح علم عمر[123]،
وقال أيضاً: إني لأحسب عمر قد ذهب بتسعة أعشار العلم[124].
وقال عبد الله بن مسعود: كان إسلام عمر فتحاً وكانت هجرته نصراً وكانت إمارته
رحمة[125].


ث- قال أبو طلحة الأنصاري: والله
ما من أهل بيت من المسلمين إلا وقد دخل عليهم في موت عمر نقص في دينهم وفي دنياهم[126].


ج- قال حذيفة بن اليمان: إنما
كان مثل الإسلام أيام عمر مثل مقبل لم يزل في إقبال، فلما قتل أدبر فلم يزل في
إدبار[127].


ح- عبد الله بن سلام: جاء
عبد الله بن سلام رضي الله عنه بعدما صلى على عمر رضي الله عنه فقال: إن كنتم
سبقتموني بالصلاة عليه، فلن تسبقوني بالثناء عليه، ثم قال، نعم أخو الإسلام كنت يا
عمر جواداً بالحق، بخيلاً بالباطل، ترضى من الرضى وتسخط من السخط، لم تكن مداحاً
ولا معياباً، طيب العَرْف[128]،
عفيف الطرف[129].


خ- العباس بن عبد المطلب: قال
العباس بن عبد المطلب: كنت جاراً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فما رأيت أحداً من
الناس كان أفضل من عمر، إن ليله صلاة، ونهاره صيام، وفي حاجات الناس، فلما توفي عمر
سألت الله تعالى: أن يرينه في النوم فرأيته في النوم مقبلاً متشحاً من سوق المدينة،
فسلمت عليه وسلم عليَّ، ثم قلت له: كيف أنت؟ قال بخير. قلت له: ما وجدت؟ قال: الآن
حين فرغت من الحساب، ولقد كاد عرشي يهوي لولا أني وجدت رباً رحيماً[130].


د- معاوية بن أبي سفيان: قال
معاوية: أما أبو بكر فلم يرد الدنيا ولم تُرِده، وأما عمر فأرادته الدنيا ولم
يُرِدْها، وأمّا نحن فتمرغنا فيها ظهْراً لبطن[131].


ذ- علي بن الحسين: عن
ابن أبي حازم عن أبيه قال: سئل علي بن الحسين عن
أبي بكر وعمر رضي الله عنهما
ومنزلتهما من رسول الله قال: كمنزلتهما اليوم، وهما ضجيعاه[132].


ر- قبيصة بن جابر: عن
الشعبي قال: سمعت قبيصة بن جابر يقول: صحبت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فما رأيت
أقرأ لكتاب الله ولا أفقه في دين الله، ولا أحسن مدارسة منه[133].


ز- الحسن البصري: قال
الحسن البصري إذا أردتم أن يطيب المجلس فأفيضوا في ذكر عمر[134]،
وقال أيضاً: أي أهل بيت لم يجدوا فقده فهم أهل بيت سوء[135].


س- علي
بن عبد الله بن عباس: قال: دخلت في يوم شديد البرد على عبد الملك بن مروان فإذا هو
في قبة باطنها فُوهِيُّ[136]
معصفر، وظاهرها خزاعيز[137]،
وحوله أربعة كوانين[138]،
قال فرأى البرد في تقفْقُفي[139]،
فقال: ما أظن يومنا هذا إلا بارداً. قلت: أصلح الله الأمير ما يظن أهل الشام أنه
أتى عليهم يوم أبرد منه، فذكر الدنيا، وذمها، ونال منها، وقال: هذا معاوية عاش
أربعين سنة عشرين أميراً، وعشرين خليفة، لله در ابن حنتمة ما كان أعلمه بالدنيا
يعني عمر رضي الله عنه[140].


التنقل السريع