القائمة الرئيسية

الصفحات

صفات الفاروق وحياته مع أسرته





أولاً: أهم صفات الفاروق:


إن مفتاح شخصية الفاروق إيمانه بالله تعالى والاستعداد لليوم الآخر وكان
هذا الإيمان سبباً في التوازن المدهش والخلاّب في شخصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه
ولذلك لم تطغ قوته على عدالته، وسلطانه على رحمته، ولا غناه على تواضعه وأصبح
مستحقاً لتأييد الله وعونه، فقد حقق شروط كلمة التوحيد، من العلم واليقين، والقبول،
والانقياد، والإخلاص والمحبة وكان على فهم صحيح لحقيقة الإيمان وكلمة التوحيد فظهرت
آثار إيمانه العميق في حياته والتي من أهمها:





1- شدة خوفه من الله تعالى بمحاسبته لنفسه:


كان
رضي الله عنه يقول: أكثروا من ذكر النار، فإن حرّها شديد، وقعرها بعيد، ومقامها
حديد[1]،
وجاء ذات يوم أعرابي، فوقف عنده وقال:









يا عمر
الخير جزيت الجنة 



 جهِّز بُنيَّاتي
وأمهنَّه




أقسـم
باللـه لتـفعـلـنه


قال:
فإن لم أفعل ماذا يكون يا أعرابي؟ قال:


أقسـم
أنـي سـوف أمضـينه



قال:
فإن مضيت ماذا يكون يا أعرابي؟ قال:










والله عن حالي لتسألنه
والواقف المسئول بينهنّه







ثمّ تكون المسألات ثمّه
إما إلى نار وإما جنة




فبكى
عمر حتى اخضلت لحيته بدموعه، ثم قال: يا غلام أعطه قميصي هذا لذلك اليوم، لا لشعره،
والله ما أملك قميصاً غيره[2]،
وهكذا بكى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه بكاءً شديداً تأثراً بشعر ذلك الأعرابي
الذي ذكّره بموقف الحساب يوم القيامة، مع أنه لا يذكر أنه ظلم أحداً من الناس،
ولكنه لعظيم خشيته وشدة خوفه من الله تعالى تنهمر دموعه أمام كل من يذكّره بيوم
القيامة[3]،
وكان رضي الله عنه من شدة خوفه من الله تعالى يحاسب نفسه حساباً عسيراً، فإذا خيل
إليه أنه أخطأ في حق أحد طلبه، وأمره بأن يقتص منه، فكان يقبل على الناس يسألهم عن
حاجاتهم، فإذا أفضوا إليه بها قضاها، ولكنه ينهاهم عن أن يشغلوه بالشكاوى الخاصة
إذا تفرغ لأمر عام، فذات يوم كان مشغولاً ببعض الأمور العامة[4]،
فجاءه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، انطلق معي فأعني على فلان، فإنه ظلمني، فرفع عمر
الدرة، فخفق بها رأس الرجل، وقال: تتركون عمر وهو مقبل عليكم، حتى إذا اشتغل بأمور
المسلمين أتيتموه، فانصرف الرجل متذمراً، فقال عمر علَيَّ بالرجل: فلما أعادوه ألقى
عمر بالدرة إليه، وقال، أمسك الدرة، واخفقني كما خفقتك قال الرجل: لا يا أمير
المؤمنين، أدعها لله ولك قال عمر: ليس كذلك: إما أن تدعها لله وإرادة ما عنده من
الثواب، أو تردها عليّ، فأعلم ذلك، فقال الرجل: أدعها لله يا أمير المؤمنين، وانصرف
الرجل، أما عمر فقد مشى حتى دخل بيته[5]
ومعه بعض الناس منهم الأحنف بن قيس الذي حدثنا عمّا رأى: ... فافتتح الصلاة فصلى
ركعتين ثم جلس، فقال: يا ابن الخطاب كنت وضيعاً فرفعك الله، وكنت ضالاً فهداك الله،
وكنت ذليلاً فأعزك الله، ثم حملك على رقاب المسلمين، فجاء رجل يستعديك، فضربته، ما
تقول لربك غداً إذا أتيته؟ فجعل يعاتب نفسه معاتبة ظننت أنه خير أهل الأرض[6]،
وعن إياس بن سلمة عن أبيه قال: مر عمر رضي الله عنه وأنا في  السوق، وهو مار في حاجة، ومعه الدرة، فقال:
هكذا أمِطْ[7]
عن الطريق يا سلمة، قال: ثم خفقني بها خفقة فما أصاب إلا طرف ثوبي، فأمطت عن
الطريق، فسكت عني حتى كان في العام المقبل، فلقيني في السوق، فقال: يا سلمة أردت
الحج العام؟ قلت نعم يا أمير المؤمنين، فأخذ بيدي، فما فارقت يدي يده حتى دخل بيته،
فأخرج كيساً في ست مائة درهم فقال: يا سلمة استعن بهذه واعلم أنها من الخفقة التي
خفقتك عام أول، قلت والله يا أمير المؤمنين، ما ذكرتها حتى ذكرتنيها قال: والله ما
نسيتها بعد[8]،
وكان رضي الله عنه يقول في محاسبة النفس ومراقبتها: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا
وزنوها قبل أن توزنوا، وتهيئوا للعرض الأكبر
} يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ18
{ [9]، وكان من شدة خشيته لله ومحاسبته لنفسه يقول: لو مات جدْي بطف[10]
الفرات لخشيت أن يحاسب الله به عمر[11]،
وعن علي رضي الله عنه قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على قتب يعدو، فقلت: يا
أمير المؤمنين أين تذهب؟ قال: بعير ندَّ[12]
من إبل الصدقة أطلبه فقلت: أذللت الخلفاء بعدك، فقال يا أبا الحسن لا تلمني فوالذي
بعث محمداً بالنبوة لو أن عناقاً[13]
أخذت بشاطئ الفرات لأخذ بها عمر يوم القيامة[14]،
وعن أبي سلامة قال: انتهيت إلى عمر وهو يضرب رجالاً ونساء في الحرم على حوض يتوضئون
منه، حتى فرق بينهم، ثم قال: يا فلان، قلت: لبيك، قال لا لبيك ولا سعديك، ألم آمرك
أن تتخذ حياضاً للرجال وحياضاً للنساء، قال: ثم اندفع فلقيه علي رضي الله عنه فقال:
أخاف أن أكون هلكت قال: وما أهلكك؟ قال ضربت رجالاً ونساءً في حرم الله –عز وجل-
قال: يا أمير المؤمنين أنت راع من الرعاة، فإن كنت على نصح وإصلاح فلن يعاقبك الله،
وإن كنت ضربتهم على غش فأنت الظالم[15]،
وعن الحسن البصري أنه قال: بينما عمر رضي الله عنه يجول في سكك المدينة إذ عرضت له
هذه الآية
} وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
{ فانطلق إلى أبي بن كعب فدخل عليه بيته وهو جالس
على وسادة فانتزعها أبي من تحته وقال: دونكها يا أمير المؤمنين قال: فنبذها برجله
وجلس، فقرأ عليه هذه الآية وقال: أخشى أن أكون أنا صاحب الآية، أوذي المؤمنين، قال:
لا تستطيع إلا أن تعاهد رعيتك، فتأمر وتنهى فقال عمر: قد قلت والله أعلم[16]،
وكان عمر رضي الله عنه ربما توقد النار ثم يدلي يده فيها، ثم يقول: ابن الخطاب هل
لك على هذا صبر[17].


وعندما
بعث سعد بن أبي وقاص أيام القادسية إلى عمر رضي الله عنه بقباء كسرى، وسيفه
ومنطقته، وسراويله، وقميصه، وتاجه، وخفيه، نظر عمر في وجوه القوم فكان أجسمهم
وأمدهم قامة سراقة بن جعثم المدلجي، فقال: يا سراقة قم فالبس فقام فلبس وطمع فيه،
فقال له عمر: أدبر فأدبر ثم قال: أقبل فأقبل ثم قال: بخ بخ، أعرابي من بني مدلج
عليه قباء كسرى، وسراويله، وسيفه، ومنطقته، وتاجه، وخفاه، رب يوم يا سراقة بن مالك
لو كان عليك فيه من متاع كسرى كان شرفاً لك ولقومك انزع فنزع سراقة، فقال عمر، إنك
منعت هذا رسولك ونبيك وكان أحب إليك مني وأكرم عليك مني، ومنعته أبا بكر وكان أحب
إليك مني، وأكرم عليك مني، ثم أعطيتنيه فأعوذ بك أن تكون أعطيتنيه لتمكر بي ثم بكى
حتى رحمه من عنده ثم قال لعبد الرحمن: أقسمت عليك لما بعته ثم قسمته قبل أن تمسي[18]
ومواقفه في هذا الباب كثيرة جداً.


1- زهده:


فهم
عمر رضي الله عنه من خلال معايشته للقرآن الكريم، ومصاحبته للنبي الأمين صلى الله
عليه وسلم ومن تفكره في هذه الحياة بأن الدنيا دار اختبار وابتلاء وعليه فإنها
مزرعة للآخرة، ولذلك تحرّر من سيطرة الدنيا بزخارفها، وزينتها، وبريقها وخضع وانقاد
وأسلم نفسه لربه ظاهراً وباطناً، وكان وصل إلى حقائق استقرت في قلبه ساعدته على
الزهد في هذه الدنيا ومن هذه الحقائق:


أ-
اليقين التام بأننا في هذه الدنيا أشبه بالغرباء، أو عابري سبيل كما قال النبي صلى
الله عليه وسلم: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل[19].


ب- وأن
هذه الدنيا لا وزن لها ولا قيمة عند رب العزة إلا ما كان منها طاعة لله -تبارك
وتعالى- إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة
ما سقى كافراً منها شربة ماء[20]،
الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، أو عالماً، أو متعلماً
[21]
.


ج- وأن
عمرها قد قارب على الانتهاء، إذ يقول صلى الله عليه وسلم بعثتُ أنا والساعة كهاتين
بالسبّابة والوسطى[22].


د- وأن
الآخرة هي الباقية، وهي دار القرار، كما قال مؤمن آل فرعون:
} يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ
الأخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ39 مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ
مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ40
{ غافر،آية:39، 40 [23]،
كانت الحقائق قد استقرت في قلب عمر فترفع رضي الله عنه عن الدنيا وحطامها وزهد فيها
وإليك شيئاً من مواقفه التي تدل على زهده في هذه الفانية، فعن
أبي الأشهب[24]
قال: مرّ عمر رضي الله عنه على مزبلة فاحتبس عندها، فكأن أصحابه تأذوا بها، فقال:
هذه دنياكم التي تحرصون عليها، وتبكون عليها[25].


وعن
سالم بن عبد الله: أن عمر بن الخطاب كان يقول: والله ما نعبأ بلذات العيش أن نأمر
بصغار المعزى أن تسمط[26]
لنا، ونأمر بلباب[27]
الخبز فيخبز لنا، ونأمر بالزبيب فينبذ لنا في الأسعان[28]
حتى إذا صار مثل عين اليعقوب[29]،
أكلنا هذا وشربنا هذا، ولكنا نريد أن نستبقي طيباتنا، لأنا سمعنا الله يقول:
} أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا
{ الأحقاف،آية:20، وعن أبي عمران الجوني قال: قال
عمر بن الخطاب لنحن أعلم بلين الطعام من كثير من آكليه، ولكنا ندعه ليوم
} يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ
وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ
حَمْلَهَا 
{ الحج،آية:2، وقد قال عمر رضي الله عنه: نظرت في
هذا الأمر، فجعلت إن أردت الدنيا أضرّ بالآخرة، وإن أردت الآخرة أضر بالدنيا، فإذا
كان الأمر هكذا، فأضر بالفانية[30]،
وقد خطب رضي الله عنه الناس، وهو خليفة، وعليه إزار فيه اثنتا عشرة رقعة[31]،
وطاف ببيت الله الحرام وعليه إزار فيه اثنتا عشرة رقعة، إحداهن بأدم أحمر[32]،
وأبطأ على الناس يوم الجمعة، ثم خرج فاعتذر إليهم في احتباسه، وقال: إنما حبسني غسل
ثوبي هذا، كان يغسل، ولم يكن لي ثوب غيره[33]،
وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه حاجاً من
المدينة إلى مكة، إلى أن رجعنا، فما ضرب له فسطاطاً[34]،
ولا خباء، كان يلقى الكساء[35]
والنطع[36]،
على الشجرة فيستظل تحته[37]،
هذا هو أمير المؤمنين الذي يسوس رعية من المشرق والمغرب يجلس على التراب وتحته
رداءٌ كأنه أدنى الرعية، أو من عامّة الناس، ودخلت عليه مرة حفصة أم المؤمنين رضي
الله عنها وقد رأت ما هو فيه من شدة العيش والزهد الظاهر عليه فقالت: إن الله أكثر
من الخير، وأوسع عليك من الرزق، فلو أكلت طعاماً أطيب من ذلك، ولبست ثياباً ألين من
ثوبك؟ قال: سأخصمك إلى نفسك[38]،
فذكر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان يلقى من شدة العيش، فلم يزل يُذكرها
ما كان فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت معه حتى أبكاها، ثم قال: إنه كان لي
صاحبان سلكا طريقاً، فإن سلكت الشديد، لعلي أن أدرك معهما عيشهما الرخي[39].


لقد
بسطت الدنيا بين يدي عمر رضي الله عنه وتحت قدميه، وفتحت بلاد الدنيا في عهده،
وأقبلت إليه الدنيا راغمة، فما طرف لها بعين، ولا اهتز لها قلبه، بل كان كل سعادته،
في إعزاز دين الله، وخضد شوكة المشركين، فكان الزهد صفة بارزة في شخصية الفاروق[40]،
يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: والله ما كان عمر بن الخطاب بأقدامنا هجرة، وقد
عرفت بأي شيء فضلنا، كان أزهدنا في الدنيا[41].


2- ورعه:


ومما
يدل على ورعه رضي الله عنه ما أخرجه أبو زيد عمر بن شبة من خبر معدان بن أبي طلحة
اليعمري أنه قدم على عمر رضي الله عنه بقطائف وطعام، فأمر به فقسم، ثم قال: اللهم
إنك تعلم أني لم أرزقهم ولن أستأثر عليهم إلا أن أضع يدي في طعامهم، وقد خفت أن
تجعله ناراً في بطن عمر، قال معدان: ثم لم أبرح حتى رأيته اتخذ صحفة من خالص ماله
فجعلها بينه وبين جفان العامة، فأمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يرغب في أن يأكل مع
عامة المسلمين لما في ذلك من المصالح الاجتماعية، ولكنه يتحرج من أن يأكل من طعام
صنع من مال المسلمين العام، فيأمر بإحضار طعام خاص له من خالص ماله، وهذا مثال رفيع
في العفة والورع إذ أن الأكل من مال المسلمين العام معهم ليس فيه شبهة تحريم لأنه
منهم ولكنه قد أعف نفسه من ذلك ابتغاء مما عند الله تعالى، ولشدة خوفه من الله
تعالى خشي أن يكون ذلك من الشبهات فحمى نفسه منه[42]،
وعن عبد الرحمن بن نجيح قال: نزلت على عمر رضي الله عنه، فكانت له ناقة  يحلبها، فانطلق غلامه ذات يوم فسقاه لبنا
أنكره، فقال: ويحك من أين هذا اللبن لك؟ قال: يا أمير المؤمنين إن الناقة انفلت
عليها ولدها فشربها، فخليت لك ناقة من مال الله، فقال ويحك تسقيني ناراً، واستحل
ذلك اللبن من بعض الناس، فقيل هو لك حلال يا أمير المؤمنين ولحمها[43]،
فهذا مثل من ورع أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، حيث خشي من عذاب الله جل وعلا لما
شرب ذلك اللبن مع أنه لم يتعمد ذلك، ولم تطمئن نفسه إلا بعد أن استحل ذلك من بعض
كبار الصحابة رضي الله عنهم الذي يمثلون المسلمين في ذلك الأمر، وهذا الخبر وأمثاله
يدل على أن ذكر الآخرة بما فيها من حساب ونعيم أو شقاء أخذ بمجامع عمر وملأ عليه
تفكيره، حتى أصبح ذلك موجهاً لسلوكه في هذه الحياة[44]،
لقد كان عمر رضي الله عنه شديد الورع، وقد بلغ به الورع فيما يحق له ولا يحق، أنه
مرض يوماً، فوصفوا له العسل دواء، وكان في بيت المال عسل جاء من بعض البلاد
المفتوحة، فلم يتداو عمر بالعسل كما نصحة الأطباء، حتى جمع الناس، وصعد المنبر
واستأذن الناس: إن أذنتم لي، وإلا فهو علي حرام، فبكى الناس إشفاقاً عليه وأذنوا له
جميعاً، ومضى بعضهم يقول لبعض، لله درك يا عمر! لقد أتعبت الخلفاء بعدك[45].


3- تواضعه:


عن عبد
الله بن عباس قال: كان للعباس ميزاب على طريق عمر فلبس عمر ثيابه يوم الجمعة وقد
كان ذبح للعباس فرخان فلما وافى الميزاب صُبّ ماء بدم الفرخين فأصاب عمر، فأمر عمر
بقلعه، ثم رجع عمر فطرح ثيابه ولبس ثياباً غير ثيابه، ثم جاء فصلى بالناس فأتاه
العباس فقال: والله إنه للموضع الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر
للعباس: وأنا أعزم عليك لما صعدت على ظهري حتى تضعه في الموضع الذي وضعه رسول الله
صلى الله عليه وسلم، ففعل ذلك العباس[46]،
وعن الحسن البصري قال: خرج عمر رضي الله عنه في يوم حارّ واضعاً رداءه على رأسه،
فمرَّ به غلام على حمار، فقال: يا غلام، احملني معك، فوثب الغلام عن الحمار، وقال:
اركب
يا أمير المؤمنين، قال: لا، اركب وأركب أنا خلفك، تريد تحملني على المكان
الوطئ، وتركب أنت على الموضع الخشن، فركب خلف الغلام، فدخل المدينة، وهو خلفه
والناس ينظرون إليه[47]،
وعن سنان بن سلمة الهذلي قال: خرجت مع الغلمان ونحن نلتقط البلح، فإذا عمر بن
الخطاب رضي الله عنه ومعه الدِّرَّة، فلما رآه الغلمان تفرقوا في النخل، قال: وقمت
وفي إزاري شيء قد لقطته، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذا ما تلقي الريح، قال: فنظر
إليه في إزاري فلم يضربني، فقلت: يا أمير المؤمنين، الغلمان الآن بين يديَّ،
وسيأخذون ما معي، قال كلا، امش قال فجاء معي إلى أهلي[48].


وقدم
على عمر بن الخطاب وفد من العراق فيهم الأحنف بن قيس في يوم صائف شديد الحر، وعمر
معتجر معمم بعباءة يهنأ بعيراً من إبل الصدقة أي يطليه بالقطران فقال: يا أحنف ضع
ثيابك، وهلم، فأعن أمير المؤمنين على هذا البعير فإنه إبل الصدقة، فيه حق اليتيم،
والأرملة، والمسكين، فقال رجل من القوم: يغفر الله لك يا أمير المؤمنين فهلا تأمر
عبداً من عبيد الصدقة فيكفيك؟ فقال عمر: وأي عبد هو أعبد مني، ومن الأحنف؟ إنه من
ولي أمر المسلمين يجب عليه لهم ما يجب على العبد لسيده في النصيحة، وأداء الأمانة[49]،
وعن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قال رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عاتقه
قربة ماء فقلت: يا أمير المؤمنين، لا ينبغي لك هذا، فقال: لما أتاني الوفود سامعين
مطيعين، دخلت نفسي نخوة، فأردت أن أكسرها[50]،
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت عمر بن الخطاب يوماً، وخرجت معه حتى دخل
حائطاً، فسمعته يقول: وبيني وبينه جدار، وهو في جوف الحائط: عمر بن الخطاب أمير
المؤمنين بخ، والله بنيّ الخطاب، لتتقين الله، أو ليعذبنك[51]،
وعن جبير بن نفير: أن نفراً قالوا لعمر بن الخطاب: ما رأينا رجلاً أقضى بالقسط، ولا
أقول للحق ولا أشدَّ على المنافقين منك يا أمير المؤمنين، فأنت خير الناس بعد رسول
الله، فقال عوف بن مالك[52]
: كذبتم – والله – لقد رأينا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: من هو؟
فقال: أبو بكر فقال عمر: صدق عوف، وكذبتم، والله لقد كان أبو بكر أطيب من ريح
المسك، وأنا أضل من بعير أهلي – يعني قبل أن يسلم – لأن أبا بكر أسلم قبله بست
سنين[53].


وهذا
يدل على تواضع عمر وتقديره للفضلاء ولا يقتصر على الأحياء منهم، ولكنه يعم منهم
الموتى كذلك، فلا يرضى أن ينكر فضلهم أو يغفل ذكراهم، ويظل يذكرهم بالخير في كل
موقف، ويحمل الناس على احترام هذا المعنى النبيل وعدم نسيان ما قدموه من جلائل
الأعمال، فيبقى العمل النافع متواصل الحلقات يحمله رجال من رجال إلى رجال، فلا ينسى
العمل الطيب بغياب صاحبه أو وفاته وفي هذا وفاء وفيه إيمان[54].


إن عمر
رضي الله عنه لا يقر إغفال فضل من سبقه في هذا المقام ولا يرضى أن تذهب أفضال
السابقين أدراج النسيان. إن الأمة التي تنسى أو تغفل ذكر من خدموها، أمة مقضي عليها
بالتبار، أليس من الخير أن يربي الناس على هذه الخلال السامية؟ لقد تربى عمر على
كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام فعلّماه ما تعجز عنه كتب التربية
والأخلاق قديمها وحديثها، وما يزال كتاب الله بين أيدينا وما تزال سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم محفوظة لدينا وفيها علم وتربية وأخلاق بما لا يقاس عليه[55].


4- حلمه:


عن ابن
عباس رضي الله عنه قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس[56]،
وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته، كهولا
كانوا أو شبانا، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي هل لك أو قال: لك وجه عند
الأمير، فاستأذن لي عليه قال: سأستأذن لك عليه قال ابن عباس: فاستأذن الحر لعيينة،
فأذن له عمر، فلما دخل عليه قال: إيه، أو هي يا بن الخطاب، فوالله ما تعطينا
الجزل[57]،
ولا تحكم فينا بالعدل، فغضب عمر حتى هم أن يوقع به، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين
إن الله تعالى قال لنبيه:
} خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ
الْجَاهِلِينَ
{ الأعراف: 199. وإن هذا من الجاهلين، والله ما
جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافاً عند كتاب الله[58]،
فعندما سمع رضي الله عنه الآية الكريمة هدأت ثائرته، وأعرض عن الرجل الذي أساء إليه
في خلقه عندما اتهمه بالبخل، وفي دينه عندما اتهمه بالجور في القسم، وتلك التي يهتم
لها عمر وينصب، ومن منا يملك نفسه عند الغضب؟ وخاصة إذا كان للغضب ما يحمل عليه،
كثيرون لا أظن ولا قليلون، متى نتجمل بهذه التعاليم لنكون مثلاً قرآنياً نتحرك وفق
ما نقرأ في كتاب الله الكريم؟ متى يكون خلقنا القرآن[59]؟
وعندما خطب عمر بالجابية في الشام تحدث عن الأموال وكيفية القسمة وعن أمور ذكر
منها… وإني أعتذر إليكم عن خالد بن الوليد فإني أمرته أن يحبس هذا المال على ضعفة
المهاجرين فأعطى ذا البأس، وذا الشرف، وذا اللسان فنزعته وأمرت أبا عبيدة بن
الجراح، فقام أبو عمرو بن حفص بن المغيرة[60]،
فقال: والله ما اعتذرت يا عمر، ولقد نزعت عاملاً استعمله رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأغمدت سيفاً سله رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعت أمراً نصبه رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وقطعت رحماً، وحسدت ابن العم. فقال عمر رضي الله عنه: إنك قريب
القرابة، حديث السن، تغضب في ابن عمك[61].


هذه بعض صفاته التي كانت ثماراً لتوحيده وإيمانه بالله واستعداده للقدوم
على الله تعالى وقد تحدث العلماء والباحثون عن صفاته الشخصية والتي من أهمها: القوة
الدينية، والشجاعة، والإيمان القوي، والعدل، والعلم، والخبرة، وسعة الإطلاع،
والهيبة وقوة الشخصية، والفراسة والفطنة وبعد النظر والكرم، والقدوة الحسنة،
والرحمة، والشدة والحزم، والغلظة، والتقوى والورع، وتكلموا عن سمات السلوك القيادي
عند الخليفة عمر بن الخطاب والتي من أهمها؛ سماع النقد، والقدرة على تفعيل الناس
وإيجاد العمل، والمشاركة في اتخاذ القرارات بالشورى، والقدرة على إحداث التغيير
والتقلب في المواقف الطارئة، وشدة مراقبته للولاة والأمراء وفي ثنايا البحث سوف
يلاحظ القارئ الكريم هذه الصفات وأكثر ولا أريد حصرها في هذا المبحث خوفاً من
التكرار.


ثانياً: حياته مع أسرته:


قال
عمر رضي الله عنه: إن الناس ليؤدون إلى الإمام ما أدى الإمام إلى الله، وإن الإمام
إذا رتع رتعت الرعية[62]،
ولذلك كان رضي الله عنه شديداً في محاسبة نفسه وأهله، فقد كان يعلم أن الأبصار
مشرئبة نحوه وطامحة إليه، وأنه لا جدوى إن قسا على نفسه ورتع أهله فحوسب عنهم في
الآخرة، ولم ترحمه ألسنة الخلائق في الدنيا فكان عمر إذا نهى الناس عن شيء تقدم إلى
أهله فقال: إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم كما ينظر الطير إلى
اللحم فإن وقعتهم وقعوا، وإن هبتم هابوا، وإني والله لا أوتى برجل وقع فيما نهيت
الناس عنه إلا أضعفت له العذاب، لمكانه مني، فمن شاء منكم أن يتقدم، ومن شاء منكم
أن يتأخر[63]
وكان شديد المراقبة والمتابعة لتصرفات أولاده وأزواجه وأقاربه وهذه بعض
المواقف:


1- المرافق العامة:


منع
عمر رضي الله عنه أهله من الاستفادة من المرافق العامة التي رصدتها الدولة لفئة من
الناس، خوفاً من أن يحابي أهله به، قال عبد الله بن عمر: اشتريت إبلاً أنجعتها
الحمى فلما سمنت قدمت بها، قال: فدخل عمر السوق فرأى إبلاً سماناً، فقال: لمن هذه
الإبل؟ قيل: لعبد الله بن عمر، قال، فجعل يقول: يا عبد الله بن عمر بخ … بخ … ابن
أمير المؤمنين، قال: ما هذه الإبل؟ قال، قلت: إبل اشتريتها وبعثت بها إلى الحمى
ابتغى ما يبتغي المسلمون، قال: فقال: فيقولون ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا
إبل ابن أمير المؤمنين، يا عبد الله بن عمر اغد إلى رأس مالك، واجعل باقيه في بيت
مال المسلمين[64].


2- محاسبته لابنه عبد الله لما اشترى فيء جلولاء:


قال
عبد الله بن عمر: شهدت جلولاء – إحدى المعارك ببلاد فارس – فابتعت من المغنم
بأربعين ألفاً، فلما قدمت على عمر قال: أرأيت لو عرضت على النار فقيل لك: افتده،
أكنت مفتدياً به؟ قلت والله ما من شيء يؤذي بك إلا كنت مفتدياً بك منه، قال: كأني
شاهد الناس حين تبايعوا فقالوا: عبد الله بن عمر صاحب رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وابن أمير المؤمنين وأحب الناس إليه، وأنت كذلك فكان أن يرخصوا عليك أحب
إليهم من أن يغلوا عليك، وإني قاسم مسؤول وأنا معطيك أكثر ما ربح تاجر من قريش، لك
ربح الدرهم درهم، قال: ثم دعا التجار فابتاعوه منه بأربعمائة ألف درهم، فدفع إلي
ثمانين ألفاً وبعث بالباقي إلى سعد بن أبي وقاص ليقسمه[65].


3- منع جرِّ المنافع بسبب صلة القربى به:


عن
أسلم قال: خرج عبد الله وعبيد الله ابنا عمر في جيش إلى العراق فلما قفلا مرا على
أبي موسى الأشعري وهو أمير البصرة فرحب بهما وسهل وقال: لو أقدر لكما على أمر
أنفعكما به لفعلت، ثم قال: بلى، هاهنا مال من مال الله أريد أن أبعث به إلى أمير
المؤمنين وأسلفكماه فتبيعان به متاع العراق ثم تبيعانه بالمدينة، فتؤديان رأس المال
إلى أمير المؤمنين ويكون لكما الربح، ففعلاً، وكتب إلى عمر أن يأخذ منهما المال.
فلما قدما على عمر قال: أكل الجيش أسلف كما أسلفكما؟ فقالا: لا.فقال عمر: أديا
المال وربحه، فأما عبد الله فسكت، وأما عبيد الله فقال: ما ينبغي لك يا أمير
المؤمنين، لو هلك المال أو نقص لضّمناه. فقال: أديا المال. فسكت عبد الله وراجعه
عبيد الله. فقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضاً شركة[66].
فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه وأخذ عبد الله وعبيد الله نصف ربح المال. قالوا: هو
أول قراض في الإسلام.


4- تفضيل أسامة بن زيد على عبد الله بن عمر رضي الله عنهم في العطاء:


كان
عمر رضي الله عنه يقسم المال ويفضل بين الناس على السابقة والنسب ففرض لأسامة بن
زيد رضي الله عنه أربعة آلاف، وفرض لعبد الله بن عمر رضي الله عنه ثلاثة آلاف،
فقال: يا أبت فرضت لأُسامة بن زيد أربعة آلاف، وفرضت لي ثلاثة آلاف؟ فما كان لأبيه
من الفضل مالم يكن لك! وما كان له من الفضل مالم يكن لي! فقال عمر: إن أباه كان أحب
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك، وهو كان أحب إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم منك[67]!!


5- أنفقت عليك شهراً:


قال
عاصم بن عمر: أرسل إليّ عمر يرفأ مولاه فأتيته – وهو جالسٌ في المسجد فحمد الله عز
وجل – وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فإني لم أكن أرى شيئاً من هذا المال يحل لي قبل
أن أليه إلا بحقه، ثم ما كان أحرم علي منه حين وليته، فعاد أمانتي، وإني كنت أنفقت
عليك من مال الله شهراً، فلست بزائدك عليه، وإني أعطيت ثمرك بالعالية منحة، فخذ
ثمنه، ثم ائت رجلاً من تجار قومك فكن إلى جانبه، فإذا ابتاع شيئاً فاستشركه وأنفق
عليك وعلى أهلك قال: فذهبت ففعلت
[68].


6- خذه يا معيقيب فاجعله في بيت المال:


قال
معيقيب: أرسل إليَّ عمر رضي الله عنه مع الظهيرة، فإذا هو في بيت يطالب ابنه عاصماً
… فقال لي: اتدري ما صنع هذا؟ إنه انطلق إلى العراق فأخبرهم أنه ابن أمير المؤمنين،
فانتفقهم سألهم النفقة، فأعطوه آنية وفضة ومتاعاً، وسيفاً محلى. فقال: عاصم: ما
فعلتُ، إنما قدمت على ناس من قومي، فأعطوني هذا. فقال عمر: خذه يا معيقيب، فاجعله
في بيت المال
[69].


فهذا
مثل من التحري في المال الذي يكتسبه الإنسان عن طريق جاهه، ومنصبه، فحيث شعر أمير
المؤمنين عمر بأنّ ابنه عاصماً قد اكتسب هذا المال لكونه ابن أمير المؤمنين تحرج في
إبقاء ذلك المال عنده لكونه اكتسبه بغير جهده الخاص فدخل ذلك في مجال
الشبهات
[70].


7- عاتكة زوجة عمر والمسك:


قدم
على عمر رضي الله عنه مسك وعنبر من البحرين فقال عمر: والله لوددت أني وجدت امرأة
حسنة الوزن تَزِنُ لي هذا الطيب حتى أقسمه بين المسلمين، فقالت له امرأته عاتكة بنت
زيد بن عمرو بن نفيل: أنا جيدة الوزن فهلمّ أزن لك، قال: لا، قالت: لم؟ قال: إني
أخشى أن تأخذيه فتجعليه هكذا وأدخل أصابعه في صدغيه – وتمسحي به عنقك، فأصيب فضلاً
على المسلمين
[71]، فهذا
مثل من ورع أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه واحتياطه البالغ لأمر دينه، فقد أبى على
امرأته أن تتولى قسمة ذلك الطيب حتى لا تمسح عنقها منه فيكون قد أصاب شيئاً من مال
المسلمين، وهذه الدقة المتناهية في ملاحظة الاحتمالات لأوليائه السابقين إلى
الخيرات، وفرقان يفرقون به بين الحلال والحرام والحق والباطل، بينما تفوت هذه
الملاحظات على الذين لم يشغلوا تفكيرهم بحماية أنفسهم من المخالفات
[72].


8- رفضه هدية لزوجته:


قال
ابن عمر: أهدى أبو موسى الأشعري لامرأة عمر عاتكة بنت زيد طنفسة، أراها تكون ذراعاً
وشبراً، فرآها عمر عندها، فقال: أنَّى لك هذه؟ فقالت: أهداها لي أبو موسى الأشعري،
فأخذها عمر رضي الله عنه فضرب بها رأسها، حتى نفض رأسها
[73]، ثم
قال علي بأبي موسى وأتعبوه فأتى به، وقد أتعب وهو يقول: لا تعجل علي يا أمير
المؤمنين فقال عمر: ما يحملك على أن تهدي لنسائي؟ ثم أخذها عمر فضرب بها فوق رأسه
وقال: خذها فلا حاجة لنا فيها
[74]، وكان
رضي الله عنه يمنع أزواجه في التدخل في شؤون الدولة، فعندما كتب عمر رضي الله عنه
على بعض عماله، فكلمته امرأته فيه فقالت: يا أمير المؤمنين فيم وجدت عليه؟ قال: يا
عدوة الله وفيم أنت وهذا؟ إنما أنت لعبة يلعب بك ثم تتركين، وفي رواية: فأقبلي على
مغزلك ولا تعرضي فيما ليس من شأنك
[75].


9- هدية ملكة الروم لزوجته أم كلثوم:


ذكر
الأستاذ الخضري في محاضراته، أنه – لما ترك ملك الروم الغزو وكاتب عمر وقاربه وسير
إليه عمر الرسل مع البريد بعثت أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب إلى ملكة الروم بطيب
ومشارب وأحناش من أحناش النساء ودسته إلى البريد فأبلغه لها فأخذ منه وجاءت امرأة
قيصر وجمعت نساءها وقالت: هذه هدية امرأة ملك العرب وبنت نبيهم وكاتبتها وأهدت لها
وفيما أهدت لها عقد فاخر، فلما انتهى به البريد إليه أمر بإمساكه ودعا الصلاة
جامعة، فاجتمعوا فصلى بهم ركعتين وقال: إنه لا خير في أمر أبرم عن غير شورى من
أموري. قولوا في هدية أهدتها أم كلثوم لامرأة ملك الروم فقال قائلون: هو له بالذي
لها: وليست امرأة الملك بذمة فتصانع به ولا تحت يديك فتبقيك. وقال آخرون قد كنا
نهدي الثياب لنستثيب ونبعث بها لتباع ولنصيب شيئاً، فقال: ولكن الرسول رسول
المسلمين والبريد بريدهم والمسلمون عظموها في صدرها فأمر بردها إلى بيت المال ورد
عليها بقدر نفقتها
[76].


10- أم سليط أحق به:


عن
ثعلبة بن أبي مالك أنه قال: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قسم مروطاً بين نساء أهل
المدينة، فبقي منها مرطٌ جيد فقال له بعض من عنده: يا أمير المؤمنين، أعط هذا بنت
رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عندك – يريدون أم كلثوم بنت علي – فقال عمر: أم
سليط أحق به - وأم سليط من نساء الأنصار ممن بايع رسول اللهصلى الله عليه وسلم- قال
عمر: فإنها كانت تزفر لنا القرب يوم أحد
[77].


11- غششت أباك ونصحت أقرباءك :


جيء
إلى عمر رضي الله عنه بمال، فبلغ ذلك حفصة أم المؤمنين، فقالت: يا أمير المؤمنين،
حق أقربائك من هذا المال، قد أوصى الله عز وجل بالأقربين من هذا المال، فقال: يا
بنية حق أقربائي في مالي، وأما هذا ففي سداد المسلمين، غششت أباك ونصحت أقرباءك.
قومي
[78].


12- أردت أن ألقى الله ملكاً خائناً:


قدم
صهرٌ لعمر عليه فطلب أن يعطيه عمر من بيت المال فانتهره عمر وقال: أردت أن ألقى
الله ملكاً خائناً: فلما كان بعد ذلك أعطاه من صُلب ماله عشرة آلاف درهم
[79].


هذه
بعض المواقف التي تدل على ترفع عمر عن الأموال العامة ومنع أقربائه وأهله من
الاستفادة من سلطانه ومكانته، ولو أن عمر أرخى العنان لنفسه أو لأهل بيته لرتعوا
ولرتع من بعدهم وكان مال الله تعالى حبساً على أولياء الأمور. ومن القواعد الطبيعية
المؤيدة بالمشاهد أن الحاكم إذا امتدت يده إلى مال الدولة اتسع الفتق على الراتق
واختل بيت المال أو مالية الحكومة وسرى الخلل إلى جميع فروع المصالح وجهر المستسر
بالخيانة وانحل النظام، ومن المعلوم أن الإنسان إذا كان ذا قناعة وعفة عن مال الناس
زاهداً في حقوقهم دعاهم ذلك إلى محبته والرغبة فيه وإذا كان حاكما حدبوا عليه
وأخلصوا في طاعته وكان أكرم عليهم من أنفسهم
[80].


ومن
خلال حياته مع أسرته وأقربائه يظهر لنا مَعْلمٌ من معالم الفاروق في ممارسة منصب
الخلافة وهي القدوة الحسنة في حياته الخاصة والعامة، حتى قال في حقه علي بن أبي
طالب: عففت فعفت رعيتك ولو رتعت لرتعوا، وكان لالتزامه بما يدعو إليه، ومحاسبته
نفسه وأهل بيته أكثر مما يحاسب به ولاته وعماله الأثر الكبير في زيادة هيبته في
النفوس وتصديق الخاصة والعامة له
[81].


هذا هو
عمر الخليفة الراشد الذي بلغ الذروة في القدوة رباه الإسلام، فملأ الإيمان بالله
شغاف قلبه، إنه الإيمان العميق، الذي صنع منه قدوة للأجيال، ويبقى الإيمان بالله
والتربية على تعاليم هذا الدين سبباً عظيماً في جعل الحاكم قدوة في أروع ما تكون
القدوة من هنا إلى يوم القيامة
[82].


ثالثاً: احترامه ومحبته لأهل البيت:


لا شك
أن لأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم منزلة رفيعة ودرجة عالية من الاحترام
والتقدير عند أهل السنة والجماعة حيث يرعون حقوق آل البيت التي شرعها الله لهم،
فيحبونهم ويتولونهم ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي قالها يوم
غدير خم: أذكركم الله في أهل بيتي
[83]، فهم
أسعد الناس بالأخذ بهذه الوصية، وتطبيقها، فيتبرؤون من طريقة الروافض الذين غلوا في
بعض أهل البيت، غلوا مفرطاً، وطريقة النواصب الذين يؤذونهم ويبغضونهم، فأهل السنة
متفقون على وجوب محبة أهل البيت وتحريم إيذائهم أو الإساءة إليهم بقول و
فعل
[84]، وهذا
الفاروق رضي الله عنه يوضح لنا معتقد أهل السنة في أهل البيت من خلال تصرفاته
ومواقفه معهم.













([1])
فرائد الكلام للخلفاء الكرام ص155.




([2])
تاريخ بغداد (4/312).




([3])
التاريخ الإسلامي (19/46).




([4])
الفاروق للشرقاوي ص222.




([5])
نفس المصدر ص222.




([6])
محض الصواب (2/503).




([7])
ماطه وأماطه: نحّاه ودفعه.




([8])
تاريخ الطبري (4/244) وإسناده ضعيف.




([9])
مختصر منهاج القاصدين ص372، فرائد الكلام ص143.




([10])
طف: الشاطئ.




([11])
مناقب عمر ص160، 161.




([12])
ندَّ: شرد وهرب.




([13])
العناق: الأنثى من المعز ما لم يتم له سنة.




([14])
مناقب عمر ص161.




([15])
مصنف عبد الرزاق (1/75، 76) وإسناده حسن، محض الصواب (2/622).




([16])
مناقب عمر ص162، محض الصواب (2/623).




([17])
نفس المصدر ص62.




([18])
محض الصواب في فضائل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (2/625).




([19])
الترمذي، ك الزهد رقم 2333 وهو حديث صحيح.




([20])
الترمذي، ك الزهد رقم 2320.




([21])
الترمذي، ك الزهد رقم 2322 حسن غريب قاله الترمذي.




([22])
مسلم، ك الفتن وأشراط الساعة رقم 132- 135.




([23])
من أخلاق النصر في جيل الصحابة د. السيد محمد نوح ص48،49.




([24])
جعفر بن حيان السعدي.




([25])
الزهد للإمام أحمد ص118.




([26])
السمط: سمط الجدي: سمطه: نتف صوفه بالماء الحار.




([27])
اللباب: الخالص من كل شيء.




([28])
الأسعان: جمع سعن، والسعن: قربة تقطع من نصفها وينتبذ فيها.




([29])
اليعقوب: الحجل.




([30])
الحلية (1/50) وهو ضعيف لانقطاعه، مناقب عمر لابن الجوزي ص137.




([31])
الزهد للإمام أحمد ص124 له طرق تقويه.




([32])
الطبقات الكبرى (3/328) إسناده صحيح.




([33])
محض الصواب في فضائل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (2/566).




([34])
الفسطاط: بيت من شعر.




([35])
الكساء: في الطبقات والمناقب أو النطع.




([36])
النُّطع: بساط من الأديم.




([37])
الطبقات لابن سعد (3/279) وإسناده صحيح.




([38])
سأخصمك إلى نفسك: أي سأجعلك حكماً على نفسك.




([39])
الزهد للإمام أحمد ص125، الطبقات (3/277).




([40])
الفاروق أمير المؤمنين د.لماظة ص11.




([41])
إسناده جيد: أخرجه ابن أبي شيبة (8/149) في مصنفه، وابن عساكر
(52/244).




([42])
التاريخ الإسلامي (19/37).




([43])
تاريخ المدينة المنورة ص702.




([44])
التاريخ الإسلامي (19/28).




([45])
فرائد الكلام للخلفاء الكرام ص113، الفاروق للشرقاوي ص275.




([46])
صفة الصفوة (1/285).




([47])
أصحاب الرسول، محمود المصري (1/157).




([48])
صلاح الأمة في علو الهمة، سيد العفاني (5/425).




([49])
أخبار عمر ص343، أصحاب الرسول، محمود المصري (1/156).




([50])
مدارج السالكين (2/330).




([51])
مالك في الموطأ (2/992) إسناده صحيح.




([52])
الأشجعي، صحابي مشهور، من مسلمة الفتح.




([53])
مناقب عمر لابن الجوزي ص14، محض الصواب (2/ 586).




([54])
شهيد المحراب ص144.




([55])
نفس المصدر ص144،145.




([56])
الحر بن قيس الفزاري، صحابي أسلم مع وفد بني فزارة.




([57])
الجزل: الجزيل العظيم: وأجزلت له العطاء أي أكثرت.




([58])
البخاري، رقم 6856، 4366.




([59])
شهيد المحراب ص181.




([60])
المخزومي.




([61])
محض الصواب (2/ 602).




([62])
موسوعة فقه عمر بن الخطاب د. محمد قلعجي ص 146.




([63])
محض الصواب (3/ 893).




([64])
مناقب عمر لابن الجوزي ص157، 158.




([65])
تاريخ الإسلام للذهبي عهد الخلفاء الراشدين ص270، 271.




([66])
الخلفاء الراشدون للنجار ص244.




([67])
فرائد الكلام للخلفاء الكرام ص113.




([68])
الطبقات (3/ 277) إسناده صحيح، محض الصواب (2/ 491).







([69])
عصر الخلافة الراشدة للعمري ص236، الأثر حسن.




([70])
التاريخ الإسلامي (19/ 40).




([71])
الزهد للإمام أحمد ص11، نقلاً عن التاريخ الإسلامي (19/ 30).




([72])
التاريخ الإسلامي (19/ 30).




([73])
نفض الرأس: حركه في ارتجاف.




([74])
الشيخان أبو بكر وعمر من رواية البلاذري ص260.




([75])
أخبار عمر ص293، الشيخان رواية البلاذري ص188.




([76])
الخلفاء الراشدون د. عبد الوهاب النجار ص245.




([77])
فتح الباري (7/ 424)، (6/ 93)، الخلافة الراشدة ص: 273.




([78])
الزهد للإمام أحمد ص17، فرائد الكلام ص139.




([79])
تاريخ الإسلام للذهبي ص271.




([80])
الخلفاء الرائدون للذهبي ص271.




([81])
القيادة والتغيير ص 182.




([82])
فن الحكم ص74.




([83])
مسلم، ك فضائل الصحابة، رقم 2408.




([84])
العقيدة في أهل البيت بين الإفراط والتفريط ص59.




التنقل السريع