القائمة الرئيسية

الصفحات

خطبة الفاروق عمر ابن الخطاب لما تولى الخلافة



اختلف الرواة في أول خطبة خطبها الفاروق عمر، فقال بعضهم، إنه صعد
المنبر فقال: اللهم إني شديد فليِّنِّي، وإني ضعيف فقوني، وإني بخيل
فسخِّني
[55]، وروي إن أول خطبة كانت قوله: إن الله ابتلاكم بي وابتلاني بكم بعد
صاحبيّ، فوالله لا يحضرني شيء من أمركم فيليه أحد دوني، ولا يتغيب عني فآلو فيه عن
أهل الجزء – يعني الكفاية – والأمانة، والله لئن أحسنوا لأحسنن إليهم، ولئن أساءوا
لأنكلنّ بهم، فقال من شهد خطبته ورواها عنه: فوالله ما زاد على ذلك حتى فارق
الدنيا
[56]، وروي أنه لما ولي الخلافة صعد المنبر وهمّ أن يجلس مكان أبي بكر فقال:
ما كان الله ليراني أرى نفسي أهلاً لمجلس أبي بكر. فنزل مرقاة، فحمد الله وأثنى
عليه ثم قال: اقرؤوا القرآن تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، وزنوا أنفسكم
قبل أن توزنوا، وتزيَّنوا للعرض الأكبر يوم تعرضون على الله لا تخفى منكم خافية،
إنه لم يبلغ حق ذي حق أن يطاع في معصية الله ألا وإني أنزلت نفسي من مال الله
بمنزلة ولي اليتيم؛ إن استغنيت عففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف
[57].


ويمكن الجمع بين هذه الروايات إذا افترضنا أن عمر ألقى خطبته أمام جمع
من الحاضرين فحفظ بعضهم منها جزءاً فرواه، وحفظ آخر جزءاً غيره فذكره، وليس من
الغريب أن يمزج الفاروق في أول خطبة له بين البيان السياسي، والإداري والعظة
الدينية، فذلك نهج هؤلاء الأئمة الأولين الذين لم يروا فارقاً بين تقوى الله والأمر
بها وسياسة البشر تبعاً لمنهجه وشريعته، كما أنه ليس غريباً على عمر أن يراعي حق
سلفه العظيم أبي بكر فلا يجلس في موضع كان يجلس فيه فيساويه بذلك في أعين الناس،
فراجع عمر نفسه رضي الله عنه ونزل درجة عن مكان الصديق رضي الله عنه
[58]، وفي رواية أخرى أنه بعد يومين من استخلافه تحدث الناس فيما كانوا
يخافون من شدته، وبطشه، وأدرك عمر أنه لابد من تجليه الأمر بنفسه، فصعد المنبر
وخطبهم فذكر بعض شأنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم وخليفته، وكيف أنهما توفيا وهما
عنه راضيان، ثم قال: … ثم إني قد وليت أموركم أيها الناس، فاعلموا أن تلك الشدة قد
أضعفت، ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي ولست أدع أحداً يظلم أحداً أو يتعدى
عليه حتى أضع خدّه على الأرض، وأضع قدمي على الخد الآخر حتى يذعن للحق. وإني بعد
شدتي تلك أضع خدي لأهل العفاف وأهل الكفاف، ولكم عليّ أيها الناس خصال أذكرها لكم
فخذوني بها؛ لكم علي أن لا أجتبي شيئاً من خراجكم، ولا مما أفاء الله عليكم إلا في
وجهه، ولكم عليّ إذا وقع في يدي ألا يخرج مني إلا في حقه، ولكم عليّ أن أزيد
عطاياكم وأرزاقكم إن شاء الله تعالى وأسُدّ ثغوركم، ولكم عليّ ألا ألقيكم في
المهالك ولا أجمّركم
[59] في ثغوركم، وإذا غبتم في البعوث فأنا أبو العيال حتى ترجعوا إليهم،
فاتقوا الله عباد الله، وأعينوني على أنفسكم بكفها عني، وأعينوني على نفسي بالأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر وإحضاري النصيحة فيما ولاني الله من أمركم، أقول قولي
هذا وأستغفر الله لي ولكم
[60]، وجاء في رواية: إنما مثل العرب مثل أنف اتبع قائده، فلينظر قائده حيث
يقوده، أما أنا فورب الكعبة لأحملنهم على الطريق
[61].


وفي هذه الروايات لخطبة عمر رضي الله عنه لما ولي الخلافة يتضح منهجه في
الحكم الذي


لم يجد عنه، وأبرز ملامحه:


1- أنه ينظر إلى الخلافة على أنها ابتلاء ابتلي به سيحاسب على أداء حقه؛
فالحكم عند الراشدين تكليف وواجب وابتلاء، وليس جاهاً وشرفاً
واستعلاء.


2- وهذا الاستخلاف يتطلب منه أن يباشر حمل أعباء الدولة فيما حضره من
أمرها، وأن يولي على الرعية التي غابت عنه أفضل الأمراء وأكفأهم، غير أن ذلك – فيما
يرى عمر – ليس كافياً لإبراء ذمته أمام الله تعالى؛ بل يرى أن مراقبة هؤلاء العمال
والولاة فرض لا فكاك منه، فمن أحسن منهم زاده إحساناً، ومن أساء عاقبه ونكّل
به
[62]، وسيأتي بيان ذلك بإذن الله عن حديثنا مؤسسة الولاة، وفقه الفاروق في
تطويرها.


3- إن شدة عمر التي هابها الناس سيخلصها لهم ليناً ورحمة، وسينصب لهم
ميزان العدل، فمن ظلم وتعدى فلن يجد إلا التنكيل والهوان  ولست أدع أحداً يظلم أحد ويتعدى عليه حتى أضع
خده على الأرض…  أما من آثر القصد والدين
والعفاف فسيجد من الرحمة ما لا مزيد عليه؛ أضع خدي لأهل العفاف
[63]، وسيتّضح عدل عمر رضي الله عنه في رعيته من خلال المواقف واهتمامه
بمؤسسة القضاء وتطويرها بحيث سيطر العدل على كل ولايات
الدولة.


4- وتكفل الخليفة بالدفاع عن الأمة ودينها وأن يسد الثغور ويدفع الخطر،
غير أن ذلك لن يتم بظلم المقاتلين، فلن يحبسهم في الثغور إلى حد لا يطيقونه،
وإن  غابوا في الجيوش فسيرعى الخليفة
وجهازه الإداري أبناءهم وأسرهم
[64]، ولقد قام الفاروق بتطوير المؤسسة العسكرية وأصبحت قوة ضاربة لا مثيل
لها على مستوى العالم في عصره.


5- وتعهد الخليفة بأداء الحقوق المالية للرعية كاملة … من خراج وفيء، لا
يحتجن منه شيئاً ولا يضعه في غير محله، بل سيزيد عطاياهم وأرزاقهم باستمرار الجهاد
والغزو والحض على العمل وضبط الأداء المالي للدولة
[65] ، وقد قام بتطوير المؤسسة المالية، وضبط مصادر بيت المال وأوجه الإنفاق
في الدولة.


6- وفي مقابل ذلك يطالب الرعية بأداء واجبها من النصح لخليفتها والسمع
والطاعة له والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما يشيع الرقابة الإسلامية في
المجتمع.


7- ونبه إلى أنه لا يعين على ذلك إلا بتقوى الله ومحاسبة النفس واستشعار
المسؤولية في الآخرة
[66].


8- علق الشيخ عبد الوهاب النجار على قول عمر رضي الله عنه: إنما مثل
العرب كمثل جمل آنف بقوله:الجمل الآنف: هو الجمل الذلول المواتي الذي يأنف من الزجر
والضرب ويعطي ما عنده من السير عفواً سهلاً وهذا تشخيص حسن للأمة الإسلامية لعهده
فإنها كانت سامعة مطواعة إذا أمرت ائتمرت، وإذا نهيت انتهت. ويتبع ذلك المسؤولية
الكبرى على قائدها فإنه يجب عليه أن يرتاد لها ويصدر في شأنه بعقل، ويورد بتمييز
حتى لا يورطها في خطر، ولا يقحمها في مهلكة، ولا يعمل شأنها إهمالاً يكون من ورائه
البطر. وقد أراد بالطريق: الطريق الأقوم الذي لا عوج فيه. وقد برَّ بما أقسم
به
[67].


9- سنة الله في الفظاظة والغلظة والرفق: مضت سنة الله في أحوال الناس
واجتماعهم وفي إقبالهم على الشخص واجتماعهم عليه وقبولهم منه وسماعهم قوله وأنسهم
به، أن ينفضوا عن الفظ الغليظ القلب حتى ولو كان ناصحاً مريداً للخير لهم حريصاً
على ما ينفعهم
[68] وقد دل
على هذا قول الله تعالى:
} فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا
غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ
لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ …
{ آل عمران، آية:159. ولذلك كان دعاء الفاروق لما
تولى الخلافة: اللهم إني شديدٌ فليني، وقد استجاب الله هذا الدعاء، وامتلأت نفس عمر
بالعطف والرحمة واللين وأصبحت من صفاته بعد توليته الخلافة، فقد عرف الناس عمر في
عهدي الرسول وأبي بكر شديداً حازماً، وصوره لنا التاريخ على أنه الشخص الوحيد الذي
مثل منذ دخل الإسلام حتى تولى الخلافة دور الشدة والقوة بجانب الرسول صلى الله عليه
وسلم وبجانب أبي بكر، حتى آلَ إليه الأمر انقلب رخاء ويسيراً ورحمة
[69].


10-
كانت البيعة العامة في سيرة الخلفاء الراشدين مقيدة بأهل المدينة دون غيرهم. وربما
حضرها وعقدها الأعراب والقبائل التي كانت محيطة بالمدينة، أو نازلة فيها، أما بقية
الأمصار، فكانت تبعاً لما يتقرر في مدينة الرسول، وهذا لا يطعن بالبيعة، ولا يقلل
من شرعيتها، لأن جمع المسلمين من كل الأقطار والأمصار كان أمراً مستحيلاً، ولا بد
للدولة من قائم بها، ولا يمكن أن تعطل مصالح الخلق، أضف إلى ذلك أن الأمصار الأخرى
قد أيدت في بيعة أبي بكر وعمر وعثمان ما جرى في المدينة، تأييداً صريحاً أو ضميناً،
ولا شك أن الأساليب التي لجأ إليها الناس في صدر الإسلام كانت تجارب تصب في حقل
تطوير الدولة ومؤسساتها
[70] .


11-
المرأة والبيعة: لم أجد أثناء البحث إشارة إلى أن المرأة قد بايعت في زمن أبي بكر
وعمر وفي عصر الخلفاء الراشدين، ولم تشر كتب السياسة الشرعية القديمة إلى حق المرأة
أو واجبها في البيعة – على حد علمي القاصر – والظاهر أن البيعة قد اقتصرت في معظم
عصور التاريخ الإسلامي على الرجال دون النساء، فلا الرجال دعوها إليها، ولا هي
طالبت بها، واعتبر تغيب المرأة عن البيعة أمراً طبيعياً، إلى درجة أن علماء الحقوق
الدستورية الإسلامية لم يشيروا إليها في قليل ولا كثير غير أن هذا الواقع التاريخي
والفقهي لا يغير من حقيقة الحكم الشرعي شيئاً، فليس في القرآن الكريم، ولا في السنة
النبوية، وهما المصدران الرئيسيان للشريعة، ما يمنع المرأة من أن تشارك الرجل في
البيعة
[71].


12- رد
سبايا العرب: كان أول قرار اتخذه عمر في دولته رد سبايا أهل الردة إلى عشائرهم حيث
قال: كرهت أن يكون السبي سنة في العرب
[72] ، وهذه
الخطوة الجريئة ساهمت في شعور العرب جميعاً أنهم أمام شريعة الله سواء، وأنه لا فضل
لقبيلة على قبيلة إلا بحسن بلائها وما تقدمه من خدمات للإسلام والمسلمين، وتلت تلك
الخطوة خطوة أخرى هي السماح لمن ظهرت توبتهم من أهل الردة بالاشتراك في الحروب ضد
أعداء الإسلام، وقد أثبتوا شجاعة في الحرب وصبراً عند اللقاء، ووفاءً للدولة لا
يعدله وفاء
[73] .


13-
تجذر منصب الخلافة في قلب الأمة وأصبح رمزاً للوحدة ولقوة المسلمين، ويرى الباحث
القدرة الفائقة التي كان يتمتع به الصحابة الكرام، ومدى الأصالة في أعمالهم بحيث أن
ما أقاموه في سويعات قليلة من نفس يوم وفاة الرسولصلى الله عليه وسلم احتاج هدمه
إلى ربع قرن في المخطط البريطاني، رغم أن البريطانيين أنفسهم كانوا يطلقون على
الخلافة في تلك الفترة الرجل العجوز، فأي شموخ هذا لتلك الخلافة، وأي رسوخ لها حيث
تحتاج لهدمها - وبعد أن أصبحت شكلاً لا موضوعاً‌ - ربع قرن كامل، وبعد حياة استمرت
قروناً من الزمن
[74].


14-
الفرق بين الملك والخليفة: قال عمر رضي الله عنه: والله ما أدري أخليفة أم ملك، فإن
كنت ملكاً فهذا أمر عظيم، فقال له قائل: إن بينهما فرقا، إن الخليفة لا يأخذ إلا
حقاً، ولا يضعه إلا في حق، وأنت بحمد الله كذلك، والملك يعسف الناس، فيأخذ من هذا
أو يعطي هذا، فسكت عمر
[75] ، وفي
رواية: أن عمر سأل سلمان الفارسي: أملك أنا أم خليفة؟ فقال سلمان: إن أنت جبيت من
الأرض درهماً أو أقل أو أكثر، ثم وضعته في غير موضعه فأنت ملك غير خليفة، فاستعبر
عمر
[76] .


خامساً: الشورى:


إن من
قواعد الدولة الإسلامية حتمية تشاور قادة الدولة وحكامها مع المسلمين والنزول على
رضاهم ورأيهم، وإمضاء نظام الحكم بالشورى قال تعالى:
} فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا
غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ
لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ159
{ آل عمران، آية:159.


وقال
تعالى:
} وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ
وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ38
{ الشورى، آية:28. لقد قرنت الآية الكريمة الشورى
بين المسلمين بإقامة الصلاة، فدل ذلك على أن حكم الشورى كحكم الصلاة، وحكم الصلاة
واجبة شرعاً، فكذلك الشورى واجبة شرعاً
[77]، وقد
اعتمد عمر رضي الله عنه مبدأ الشورى في دولته، فكان رضي الله عنه لا يستأثر بالأمر
دون المسلمين ولا يستبد عليهم في شأن من الشؤون العامة، فإذا نزل به أمر لا يبرمه
حتى يجمع المسلمين ويناقش الرأي معهم فيه ويستشيرهم.


ومن
مأثور قوله: لا خير في أمر أبرم من غير شورى
[78] ،
وقوله الرأي الفرد كالخيط السحيل والرأيان كالخيطين المبرمين، والثلاثة مرار لا
يكاد ينتقض
[79] ،وقوله:  شاور في أمرك من يخاف
الله عز وجل
[80]
،
وقوله: الرجال ثلاثة: رجل ترد عليه الأمور فيسددها برأيه، ورجل يشاور فيما أشكل
عليه وينزل حيث يأمره أهل الرأي ورجل حائر بائر، لا يأتمر رشداً ولا يقطع
مرشداً
[81]،
وقوله: يحق على المسلمين أن يكون أمرهم شورى بينهم وبين ذوي الرأي منهم، فالناس تبع
لمن قام بهذا الأمر ما اجتمعوا عليه ورضوا به لزم الناس وكانوا فيه تبعاً لهم، ومن
أقام بهذا الأمر تبع لأولى رأيهم ما رأوا لهم ورضوا به لهم من مكيدة في حرب كانوا
فيه تبعاً لهم
[82]، وكان
يحث قادة حربه على الشورى، فعندما بعث أبا عبيد الثقفي لمحاربة الفرس بالعراق قال
له: أسمع وأطع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأشركهم في الأمر وخاصة من كان
منهم من أهل بدر
[83]، وكان
يكتب إلى قادته بالعراق يأمرهم أن يشاوروا في أمورهم العسكرية عمرو بن معديكرب
وطلحة الأسدي قائلاً: استشيروا واستعينوا في حربكم بطلحة الأسدي وعمرو بن معديكرب
ولا تولهما من الأمر شيئاً فإن كل صانع أعلم بضاعته
[84]، وكتب
إلى سعد بن أبي وقاص: وليكن عندك من العرب أول من أهل الأرض من تطمئن إلى نصحه
وصدقه فإن الكذوب لا ينفعك خبره وإن صدقك في بعضه والغاش عين عليك وليس عيناً
لك
[85]، ومما
قاله عمر رضي الله عنه لعتبة بن غزوان حين وجهه إلى البصرة: قد كتبت إلى العلاء
الحضرمي
[86]، أن
يمدك  بعرفجة بن هرشمة
[87]، وهو
ذو مجاهدة للعدو ومكايدته فإذا قدم عليك فاستشره وقربه
[88]، وكان
مسلك الفاروق في الشورى جميلاً: فإنه كان يستشير العامة أول أمره فيسمع منهم، ثم
يجمع مشايخ أصحاب رسول الله وأصحاب الرأي منهم ثم يفضي إليهم بالأمر ويسألهم أن
يخلصوا فيه إلى رأي محمود، فما استقر عليه رأيهم أمضاه: وعمله هذا يشبه الأنظمة
الدستورية في كثير من الممالك النظامية إذ يعرض الأمر على مجلس النواب مثلاً ثم بعد
أن يقرر بالأغلبية يعرض على مجلس آخر يسمى في بعضها مجلس الشيوخ وفي بعضها مجلس
اللوردات فإذا انتهى المجلس من تقريره أمضاه الملك. والفرق بين عمل عمر وعمل هذه
الممالك أن هنا الأمر كان اجتهاداً منه وبغير نظام متبع أو قوانين مسنونة
[89]،
وكثيراً ما كان عمر يجتهد في الشيء ويبدي رأيه فيه ثم يأتي أضعف الناس فيبين له وجه
الصواب وقوة الدليل فيقبله ويرجع عن خطأ ما رأى إلى صواب ما استبان له
[90]، وقد
توسع نطاق الشورى في خلافة عمر رضي الله عنه لكثرة المستجدات والأحداث وامتداد رقعة
الإسلام إلى بلاد ذات حضارات وتقاليد ونظم متباينة فولدت مشكلات جديدة احتاجت إلى
الاجتهاد الواسع مثل معاملة الأرض المفتوحة وتنظيم العطاء وفق قواعد جديدة لتدفع
أموال الفتوح على الدولة، فكان عمر يجمع للشورى أكبر عدد من الصحابة
الكبار
[91]، وكان
لأشياخ بدر لهم مكانتهم الخاصة في الشورى لفضلهم وعلمهم وسابقتهم إلا أن عمر رضي
الله عنه أخذ يشوبهم بشباب، فإنهم على دربهم ماضون لأجلهم ورحمة ربهم ومغفرته
والدولة لابد لها من تجديد رجالاتها وكان عمر العبقري الفذ قد فطن إلى هذه الحقيقة
فأخذ يختار من شباب الأمة من علم منهم علماً وورعاً وتقى فكان عبد الله بن عباس من
أولهم، وما زال عمر يجتهد متخيراً من شباب الأمة مستشارين له متخذاً القرآن فيصلاً
في التخير حتى قال عبد الله بن عباس: وكان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته كهولاً
كانوا أو شباناً
[92]، وقد
قال الزهري لغلمان أحداث: لا تحتقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم فإن عمر بن الخطاب رضي
الله عنه كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان فاستشارهم يبتغي حدة
عقولهم
[93]. وقال
محمد بن سيرين: إن كان عمر رضي الله عنه ليستشير في الأمر حتى إن كان ليستشير
المرأة فربما أبصر في قولها الشيء يستحسنه فيأخذه وقد ثبت أنه استشار مرة أم
المؤمنين حفصة رضي الله عنها
[94] وقد
كان لعمر رضي الله عنه خاصة من علية الصحابة وذوي الرأي، منهم العباس بن عبد المطلب
وابنه عبد الله، وكان لا يكاد يفارقه في سفر
ولا حضر وعثمان بن عفان وعبد
الرحمن بن عوف وعلي بن أبي طالب
[95]،
ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب وزيد بن ثابت
[96]،
ونظرائهم فكان يستشيرهم ويرجع إلى رأيهم
[97]، وكان
المستشارون يبدون آراءهم بحرية تامة وصراحة كاملة، ولم يتهم عمر رضي الله عنه أحداً
منهم في عدالته وأمانته، وكان عمر رضي الله عنه يستشير في الأمور التي لا نص فيها
من كتاب وسنة وهو يهدف إلى معرفة إن كان بعض الصحابة يحفظ فيها نصاً من السنة، فقد
كان بعض الصحابة يحفظ منها ما لا يحفظه الآخرون، وكذلك كان يستشير في فهم النصوص
المحتملة لأكثر من معنى لمعرفة المعاني والأوجه المختلفة، وفي هذين الأمرين قد
يكتفي باستشارة الواحد أو العدد القليل، وأما في النوازل العامة فيجمع الصحابة،
ويوسع النطاق ما استطاع كما فعل عند وقوع الطاعون بأرض الشام متوجهاً
إليها
[98]، وبلغ
عمر خبره فوافاه الأمراء بسرغ موضع قرب الشام وكان مع عمر المهاجرون والأنصار،
فجمعهم مستشيراً، أيمضي لوجهه، أم يرجع؟ فاختلفوا عليه: فمن قائل: خرجت لوجه الله
فلا يصدنك عنه هذا. ومن قائل: إنه بلاء وفناء، فلا نرى أن تقدم عليه. ثم أحضر
مهاجرة الفتح من قريش، فلم يختلفوا عليه، بل أشاروا بالعودة، فنادى عمر في الناس:
إني مصبح على ظهر
[99]. فقال
أبو عبيدة: أفراراً من قدر الله؟. فقال: نعم، نفر من قدر الله إلى قدر، أرأيت لو
كان لك إبل فهبطت وادياً له عدواتان إحداهما مخصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت
الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ فسمع بهم عبد الرحمن
بن عوف، فجاءهم، وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا سمعتم بهذا الوباء
ببلد فلا تقدموا عليه، وإذا وقع ببلد وأنتم فيه فلا تخرجوا فراراً منه
[100]،
وكانت مجالات الشورى في عهد عمر متعددة منها في المجال الإداري والسياسي كاختيار
العمال والأمراء، والأمور العسكرية، ومنها في المسائل الشرعية المحضة، كالكشف في
الحكم الشرعي من حيث الحل والحرمة والمسائل القضائية
[101]
وستتضح مجالات الشورى وتطبيقاتها وبحث عمر رضي الله عنه عن الدليل الأقوى من خلال
هذا البحث كل في موضعه بإذن الله تعالى، والذي نحب أن نؤكد عليه أن الخلافة الراشدة
كانت قائمة على مبدأ الشورى المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
ولم تكن في عهد عمر فلتة استنبطها ولا بدعة أتى بها ولكنها قاعدة من قواعد المنهج
الرباني.


سادساً: العدل والمساواة:


إن من
أهداف الحكم الإسلامي الحرص على إقامة قواعد النظام الإسلامي التي تساهم في إقامة
المجتمع المسلم ومن أهم هذه القواعد العدل والمساواة، ففي خطاب الفاروق للأمة أقر
هذه المبادئ، فعدالته ومساواته تظهر في نص خطابه الذي ألقاه على الأمة يوم توليه
منصب الخلافة؛ ولا شك أن العدل في فكر الفاروق هو عدل الإسلام الذي هو الدعامة
الرئيسية في إقامة المجتمع الإسلامي والحكم الإسلامي فلا وجود للإسلام في مجتمع
يسوده الظلم ولا يعرف العدل.


إن إقامة العدل بين الناس أفراداً وجماعات ودولاً ليست من الأمور
التطوعية التي تترك لمزاج الحاكم أو الأمير وهواه، بل إن إقامة العدل بين الناس في
الدين الإسلامي تعد من أقدس الواجبات وأهمها، وقد اجتمعت الأمة على وجوب
العدل
[102]، قال الفخر الرازي  أجمعوا على
أن من كان حاكما وجب عليه أن يحكم بالعدل
[103] .


وهذا
الحكم تؤيده النصوص القرآنية والسنة النبوية فإنّ من أهداف دولة الإسلام إقامة
المجتمع الإسلامي الذي تسود فيه قيم العدل والمساواة ورفع الظلم ومحاربته بكافة
أشكاله وأنواعه، وعليها أن تفسح المجال وتيسر السبل أمام كل إنسان يطلب حقه أن يصل
إليه بأيسر السبل وأسرعها دون أن يكلفه ذلك جهداً أو مالاً وعليها أن تمنع أي وسيلة
من الوسائل التي من شأنها أن تعيق صاحب الحق من الوصول إليه، وهذا ما فعله الفاروق
في دولته، فقد فتح الأبواب على مصاريعها لوصول الرعية إلى حقوقها، وتفقد بنفسه
أحوالها، فمنعها من الظلم المتوقع عليها، وأقام العدل بين الولاة والرعية، في أبهى
صورة عرفها التاريخ فقد كان يعدل بين المتخاصمين ويحكم بالحق ولا يهمه أن يكون
المحكوم عليهم من الأقرباء أو الأعداء، أو الأغنياء أو الفقراء، قال تعالى:
} يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ
شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَ
تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ
خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ8
{ المائدة، آية:8.


لقد
كان الفاروق قدوة في عدله أسر القلوب وبهر العقول، فالعدل في نظره دعوة عملية
للإسلام به تفتح قلوب الناس للإيمان، وقد سار على ذات نهج الرسول صلى الله عليه
وسلم، فكانت سياسته تقوم على العدل الشامل بين الناس، وقد نجح في ذلك على صعيد
الواقع والتطبيق نجاحاً منقطع النظير لا تكاد تصدقه العقول حتى اقترن اسمه بالعدل
وبات من الصعب جداً على كل من عرف شيئاً يسيراً من سيرته أن يفصل ما بين الاثنين،
وقد ساعده على تحقيق ذلك النجاح الكبير عدة أسباب ومجموعة من العوامل
منها:


1-     
أن مدة
خلافته كانت أطول من مدة خلافة أبي بكر بحيث تجاوزت عشر سنوات في حين اقتصرت خلافة
أبي بكر على سنتين وعدة شهور فقط.


2-     
إنه
كان شديد التمسك بالحق حتى إنه كان على نفسه وأهله أشد منه على الناس كما
سنرى.


3-     
أن فقه
القدوم على الله كان قوياً عنده لدرجة أنه كان في كل عمل يقوم به يتوخى مرضاة الله
قبل مرضاة الناس ويخشى الله ولا يخشى أحداً من الناس.


4-     
أن
سلطان الشرع كان قوياً في نفوس الصحابة والتابعين بحيث كانت أعمال عمر تلقى تأييداً
وتجاوباً وتعاوناً من الجميع
[104].


5-     
وهذه بعض مواقفه في إقامته للعدل والقسط بين الناس فقد حكم بالحق لرجل
يهودي على مسلم، ولم يحمله كفر اليهودي على ظلمه والحيف عليه، أخرج الإمام
مالك
[105] من
طريق سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اختصم إليه مسلم ويهودي، فرأى
عمر أن الحق لليهودي فقضى له، فقال له اليهودي: والله لقد قضيت بالحق
[106] ، وكان
رضي الله عنه يأمر عماله أن يوافوه بالمواسم، فإذا اجتمعوا قال: أيها الناس إني لم
أبعث عمالي عليكم ليصيبوا من أبشاركم، ولا من أموالكم، إنما بعثتهم ليحجزوا بينكم،
وليقسموا فيئكم بينكم، فمن فعل به غير ذلك فليقم، فما قام أحد إلا رجل واحد قام
فقال: يا أمير المؤمنين إن عاملك ضربني مائة سوط، قال: فيم ضربته؟ قم فاقتص منه،
فقام عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين إنك إن فعلت هذا يكثر عليك ويكون سنة
يأخذ بها من بعدك، فقال: أنا لا أقيد، وقد رأيت رسول الله يقيد من نفسه قال: فدعنا
فلنرضه، قال: دونكم فارضوه، فاقتدى منه بمائتي دينار كل سوط بدينارين
[107] ولو
لم يرضوه لأقاده
[108] رضي
الله عنه.


وجاء
رجل من أهل مصر يشكو ابن عمرو بن العاص واليه على مصر قائلاً:
يا أمير المؤمنين
عائذ بك من الظلم، قال عذت معاذا قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربني
بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين، فكتب عمر إلى عمرو رضي الله عنهما يأمره بالقدوم
ويقدم بابنه معه: فقدم عمر فقال عمر: أين المصري؟ خذ السوط فاضرب فجعل يضربه بالسوط
ويقول عمر: اضرب ابن الأكرمين؟ قال أنس: فضرب، فوالله، لقد ضربه ونحن نحب ضربه، فما
رفع عنه حتى تمنينا أن يرفع عنه، ثم قال عمر للمصري: اصنع على صلعة عمرو، فقال: يا
أمير المؤمنين إنما ابنه الذي ضربني وقد اشتفيت منه، فقال عمر لعمرو: مذ كم تعبدتم
الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ قال: يا أمير المؤمنين لم أعلم ولم
يأتني
[109].


لقد
قامت دولة الخلفاء الراشدين على مبدأ العدل وما أجمل ما قاله ابن تيمية: إن الله
ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة، …
بالعدل تستصلح الرجال وتستغزر الأموال
[110].


وأما
مبدأ المساواة الذي اعتمده الفاروق في دولته، فيعد أحد المبادئ العامة التي أقرها
الإسلام قال تعالى:
} يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى
وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ
اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ13 
{ الحجرات، آية:13.


إن
الناس جميعاً في نظر الإسلام سواسية، الحاكم والمحكوم، الرجال والنساء، العرب
والعجم، الأبيض والأسود، لقد ألغى الإسلام الفوارق بين الناس بسبب الجنس واللون أو
النسب أو الطبقة، والحكام والمحكومون كلهم في نظر الشرع سواء
[111]،
وجاءت ممارسة الفاروق لهذا المبدأ خير شاهد وهذه بعض المواقف التي جسدت مبدأ
المساواة في دولته:


- أصاب
الناس في إمارة عمر رضي الله عنه سنة جدب بالمدينة وما حولها، فكانت تسقي إذا
ريحت
[112]
تراباً كالرماد، فسمي ذلك العام عام الرمادة، فآلى حلف عمر ألا يذوق سمناً ولا
لبناً ولا لحماً حتى يحي الناس من أول الحياء، فقدمت السوق عُكَّة من سمن، ووطب من
لبن، فاشتراهما غلام لعمر بأربعين، ثم أتى عمر فقال: يا أمير المؤمنين، قد أبر الله
يمينك، وعظم أجرك، قدم السوق وطب من لبن، وعكة من سمن، فاتبعناهما بأربعين، فقال
عمر: أغليت بهما، فتصدق بهما، فإني أكره أن آكل إسرافاً، وقال عمر: كيف يعنيني شأن
الرعية إذا لم يمسني ما مسهم
[113]، هذا
موقف أمير المؤمنين عام القحط الذي سمي عام الرمادة، ولم يختلف موقفه عام الغلاء،
فقد: أصاب الناس سنة غلاء، فغلا السمن، فكان عمر يأكل الزيت، فتقرقر بطنه، فيقول:
قرقر ما شئت، فو الله
لا تأكل السمن حتى يأكله الناس
[114]، ولم
يقتصر مبدأ المساواة في التطبيق عند خلفاء الصدر الأول على المعاملة الواحدة للناس
كافة، وإنما تعداه إلى شؤون المجتمع الخاصة، ومنها ما يتعلق بالخادم والمخدوم، فعن
ابن عباس أنه قال: قدم عمر بن الخطاب حاجاً، فصنع له صفوان بن أمية طعاماً، فجاؤوا
بجفنه يحملها أربعة، فوضعت بين يدي القوم يأكلون وقام الخُدّام فقال عمر: أترغبونه
عنهم؟ فقال سفيان بن عبد الله: لا والله يا أمير المؤمنين، ولكنا نستأثر عليهم،
فغضب عمر غضباً شديداً، ثم قال: ما لقوم يستأثرون على خدامهم، فعل الله بهم وفعل،
ثم قال للخدام: اجلسوا فكلوا، فقعد الخدام يأكلون، ولم يأكل أمير المؤمنين
[115]،
وكذلك فإن عمر رضي الله عنه لم يأكل من الطعام ما لا يتيسر لجميع المسلمين، فقد كان
يصوم الدهر، فكان زمن الرمادة إذا أمسى أتى بخبز قد ثُرد بالزيت، إلى أن نحروا
يوماً من الأيام جزوراً
[116]،
فأطعمها الناس وغرفوا له طيبها فأتي به، فإذا قديد من سنام ومن كبد، فقال: أنى هذا؟
فقالوا: يا أمير المؤمنين، من الجزور التي نحرناها اليوم. فقال: بخ بخ، بئس الوالي
أنا إن أكلت طيبها، وأطعمت الناس كرادسها، ارفع هذه الجفنة، هات غير هذا الطعام،
فأتي بخبز وزيت، فجعل يكسر بيده ويثرد ذلك الخبز
[117] ولم
يكن عمر ليطبق مبدأ المساواة في المدينة وحدها، من غير أن يعلمه لعماله في
الأقاليم، حتى في مسائل الطعام والشراب
[118] فعندما
قدم عتبة بن فرقد أذربيجان أتى بالخبيص، فلما أكله وجد شيئاً حلواً طيباً، فقال:
والله لو صنعت لأمير المؤمنين من هذا، فجعل له سفطين عظيمين، ثم حملهما على بعير مع
رجلين، فسرّح بهما إلى عمر. فلما قدما عليه فتحهما، فقال: أي شيء هذا؟ قالوا: خبيص
فذاقه، فإذا هو شيء حلو. فقال: أكل المسلمين يشبع من هذا في رحله؟ قال: لا. قال:
أما لا فارددهما. ثم كتب إليه: أما بعد، فإنه ليس من كد أبيك ولا من كد أمك. أشبع
المسلمين مما تشبع منه في رحلك
[119].


ومن
صور تطبيق المساواة بين الناس ما قام به عمر عندما جاءه مال فجعل يقسمه بين الناس،
فازدحموا عليه، فأقبل سعد بن أبي وقاص يزاحم الناس، حتى خلص إليه، فعلاه بالدِّرة
وقال إنك أقبلت لا تهاب سلطان الله في الأرض، فأحببت أن أعلمك أن سلطان الله لن
يهابك
[120]، فإذا
عرفنا أن سعداً كان أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأنه فاتح العراق، ومدائن كسرى،
وأحد الستة الذين عينهم للشورى، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وهو راضٍ
عنهم، وأنه كان يقال له فارس الإسلام … عرفنا مبلغ التزام عمر بتطبيق
المساواة
[121]،
ويروي
ابن الجوزي أن عمرو بن العاص، أقام حد الخمر على عبد الرحمن بن عمر بن
الخطاب، يوم كان عامله على مصر. ومن المألوف أن يقام الحد في الساحة العامة
للمدينة، لتتحقق من ذلك العبرة للجمهور، غير أن عمرو بن العاص أقام الحد على ابن
الخليفة في البيت، فلما بلغ الخبز عمر، كتب إلى عمرو ابن العاص: من عبد الله عمر
أمير المؤمنين إلى العاصي بن العاص: عجبت لك يا ابن العاص ولجرأتك عليّ، وخلاف
عهدي. أما إني قد خالفت فيك أصحاب بدر ممن هو خير منك، واخترتك لجدالك عني، وإنفاذ
عهدي، فأراك تلوثت بما قد تلوثت، فما أراني إلا عازلك فمسيء عزلك، تضرب عبد الرحمن
في بيتك، وقد عرفت أن هذا يخالفني؟ إنما عبد الرحمن رجل من رعيتك، تصنع به ما تصنع
بغيره من المسلمين. ولكن قلت: هو ولد أمير المؤمنين وقد عرفت أن لا هوادة لأحد من
الناس عندي في حق يجب لله عليه، فإذا جاءك كتابي هذا فابعث به في عباءة على قتب حتى
يعرف سوء ما صنع
[122]، وقد
تم إحضاره إلى المدينة وضربه الحد جهراً، روى ذلك ابن سعد وأشار إليه ابن الزبير،
وأخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن ابن عمر مطولاً
[123]،
وهكذا نرى المساواة أمام الشريعة في أسمي درجاتها، فالمتهم هو ابن أمير المؤمنين،
ولم يعفه الوالي من العقاب، ولكن الفاروق وجد أن ابنه تمتع ببعض الرعاية، فآلمه ذلك
أشد الألم، وعاقب واليه – وهو فاتح مصر – أشد العقاب وأقساه. وأنزل بالابن ما يستحق
من العقاب، حرصاً على حدود الله، ورغبة في تأديب ابنه وتقويمه وإذا كان هذا منهجه
مع أقرب الناس عنده فما بالك بالآخرين؟
[124] ومن
الأمثلة التاريخية الهامة التي يستدل بها المؤلفون على عدم الهوادة في تطبيق
المساواة، ما صنعه عمر مع جبلة بن الأيهم وهذه هي القصه: كان جبلة آخر أمراء بني
غسان من قبل هرقل، وكان الغساسنة يعيشون في الشام تحت إمرة دولة الروم، وكان الروم
يحرضونهم دائماً على غزو الجزيرة العربية، وخاصة بعد نزول الإسلام. ولما انتشرت
الفتوحات الإسلامية، وتوالت انتصارات المسلمين على الروم، أخذت القبائل العربية في
الشام – تعلن إسلامها بدا للأمير الغساني أن يدخل الإسلام هو أيضاً، فأسلم وأسلم
ذووه معه. وكتب إلى الفاروق يستأذنه في القدوم إلى المدينة، ففرح عمر بإسلامه
وقدومه، فجاء إلى المدينة وأقام بهازمنا والفاروق يرعاه ويرحب به، ثم بدا له أن
يخرج إلى الحج، وفي أثناء طوافه بالبيت الحرام وطئ إزاره رجل من بني فزارة فحله،
وغضب الأمير الغساني لذلك – وهو حديث عهد بالإسلام – فلطم لطمة قاسية هشمت أنفه،
وأسرع الفزاري إلى أمير المؤمنين يشكو إليه ماحل به وأرسل الفاروق إلى جبلة يدعوه
إليه، ثم سأله فأقر بما حدث فقال له عمر: ماذا دعاك يا جبلة لأن تظلم أخاك هذا
فتهشم أنفه؟


فأجاب
بأنه قد ترفق كثيراً بهذا البدوي وأنه لولا حرمة البيت الحرام لأخذت الذي فيه
عيناه.


فقال
له عمر : لقد أقررت، فأما أن ترضي الرجل وإما أن اقتص له
منك.


وزادت
دهشة جبلة بن الأيهم لكل هذا الذي يجري وقال: وكيف ذلك وهو سوقة وأنا
ملك؟


فقال
عمر: إن الإسلام قد سوى بينكما.


فقال
الأمير الغساني: لقد ظننت يا أمير المؤمنين أن أكون في الإسلام أعز مني في
الجاهلية.


فقال
الفاروق: دع عنك هذا فإنك إن لم ترضِ الرجل اقتصصت له منك.


فقال
جبلة: إذا أتنصر.


فقال
عمر: إن تنصرت ضربت عنقك، لأنك أسلمت فإن ارتددت قتلتك
[125].


وهنا
أدرك جبلة أن الجدال لا فائدة منه، وأن المراوغة مع الفاروق لن تجدي، فطلب من
الفاروق أن يمهله ليفكر في الأمر، فأذن له عمر بالانصراف، وفكر جبلة بن الأيهم ووصل
إلى قرار، وكان غير موفق في قراره، فقد آثر أن يغادر مكة هو وقومه في جنح الظلام
وفر إلى القسطنطينية، فوصل إليها متنصراً، وندم بعد ذلك على هذا القرار أشد الندم،
وصاغ ذلك في شعر جميل ما زال التاريخ يردده ويرويه وفي هذه القصة نرى حرص الفاروق
على مبدأ المساواة أمام الشرع، فالإسلام قد سوى بين الملك والسوقة، ولا بد لهذه
المساواة أن تكون واقعاً حياً وليس مجرد كلمات توضع على الورق أو شعار تردده
الألسنة
[126].


لقد
طبق عمر رضي الله عنه مبدأ المساواة الذي جاءت به شريعة رب العالمين وجعله واقعاً
حياً يعيش ويتحرك بين الناس، فلم يتراجع أمام عاطفة الأبوة، ولم ينثنِ أم ألقاب
النبالة، ولا تضيع أمام اختلاف الدين أو مجاملة الرجال الفاتحين، لقد كان ذلك
المبدأ العظيم واقعاً حياً، شعر به كل حاكم ومحكوم، ووجده كل مقهور وكل
مظلوم
[127] لقد
كان لتطبيق مبدأ المساواة أثره في المجتمع الراشدي فقد أثر الشعور بها على نفوس ذلك
الجيل فنبذوا العصبية التقليدية، من الادعاء بالأولية والزعامة، والأحقية بالكرامة،
وأزالت الفوارق الحسبية الجاهلية، ولم يطمع شريف في وضيع، ولم ييأس ضعيف من أخذ
حقه، فالكل سواء في الحقوق والواجبات، لقد كان مبدأ المساواة في المجتمع الراشدي
نوراً جديداً أضاء به الإسلام جنبات المجتمع الإسلامي وكان لهذا المبدأ الأثر القوي
في إنشائه
[128].


سابعاً: الحريات:


مبدأ الحرية من المبادئ الأساسية التي قام عليها الحكم في عهد الخلفاء
الراشدين، ويقضى هذا المبدأ بتأمين وكفالة الحريات العامة للناس كافة ضمن حدود
الشريعة الإسلامية وبما لا يتناقض معها، فقد كانت دعوة الإسلام لحرية الناس، جميع
الناس دعوة واسعة وعريضة قلما تشتمل على مثلها دعوة في التاريخ، وكانت أول دعوة
أطلقها في هذا المجال هي دعوته الناس في العديد من الآيات القرآنية لتوحيد الله
والتوجه له بالعبادة وحده دون سائر الكائنات والمخلوقات، وفي دعوة التوحيد هذه كل
معاني الحرية والاستقلال لبني الإنسان، أضف إلى ذلك أنّ الإسلام عرف الحرية بكل
معانيها ومدلولاتها ومفاهيمها، فتارة تكون فعلاً إيجابياً كالأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر، وتارة فعلاً سلبياً كالامتناع عن إكراه أحد في الدخول في الدين، وفي
أحيان كثيرة يختلط معناها بمعنى الرحمة، والعدل والشورى والمساواة لأن كل مبدأ من
هذه المبادئ التي نادى بها الإسلام لا يستقيم أمره   ولا يمكن تحقيقه إلا بوجود الحرية، وقد أسهم
مبدأ الحرية مساهمة فعالة إبان حكم الخلفاء الراشدين خاصة بانتشار الدين الإسلامي،
وبتسهيل فتوحات المسلمين واتساع رقعة دولتهم لأن الإسلام كرم الإنسان وكفل حرياته
على أوسع نطاق ولأن النظم السياسية الأخرى السائدة آنذاك في دولة الروم والفرس كانت
أنظمة استبدادية وتسلطية، وفئوية قاسى بسببها الرعايا وبصورة خاصة المناوئون
السياسيون والأقليات الدينية أشد درجات الكبت والاضطهاد والظلم، فعلى سبيل المثال
كانت دولة الروم تفرض على الآخذين بالمذهب اليعقوبي ولا سيما في مصر والشام أن
يدينوا بالمذهب الملكاني دينها الرسمي وكم أخذ المخالفون بالمشاعل توقد نيرانها ثم
تسلط على أجسامهم حتى يحترقوا ويسيل الدهن من جوانبهم على الأرض، والجبابرة القساة
يحملونهم حملاً على الإيمان بما أقره مجمع مقدونية أو يضعونهم في كيس مملوء بالرمال
ثم يلقون بهم في أعماق البحار. وكذلك كانت دولة فارس في مختلف العصور تضطهد معتنقي
الملل السماوية ولا سيما المسيحيين بعد ازدياد القتال عنفاً بينها وبين دولة الروم،
وأما في الإسلام في زمن رسول الله، وعصر الخلفاء الراشدين، فقد كانت الحريات
العامة  المعروفة في أيامنا معلومة ومصانة
تماماً
[129]، وإليك بعض التفصيل عن الحريات في زمن الفاروق رضي الله
عنه:


1- حرية العقيدة الدينية:


إن دين الإسلام لم يكره أحداً من الناس على اعتناقه، بل دعا إلى التفكر
والتأمل في كون الله ومخلوقاته وفي هذا الدين وأمر اتباعه أن يجادلوا الناس بالتي
هي أحسن، قال تعالى:
} لاَ
إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ
{ البقرة،آية:256. وقال تعالى: } فَإِنْ
أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ
الْبَلاَغُ
{ 
الشورى،آية:48. وقال تعالى:
} ادْعُ
إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ
وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ125  
{ النحل،آية:125.


وقال تعالى: } وَلاَ
تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ
ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ46
{ العنكبوت،آية:46. والآيات في ذلك كثيرة ولذلك نجد
الفاروق في دولته حرص على حماية الحرية الدينية ونلاحظ بأن عمر سار على هدي النبي
والخليفة الراشد أبي بكر في هذا الباب فقد: أقرّ أهل الكتاب على دينهم؛ وأخذ منهم
الجزية وعقد معهم المعاهدات كما سيأتي تفصيله، وخططت معابدهم ولم تهدم وتركت على
حالها وذلك لقول الله تعالى:
} وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ
صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ
كَثِيرًا  
{ الحج،آية:40.


فحركة الفتوحات في عهد الفاروق التي قام بها الصحابة تشهد على احترام
الإسلام للأديان الأخرى، وحرص القيادة العليا على عدم إكراه أحد في الدخول في
الإسلام، حتى إن الفاروق نفسه جاءته ذات يوم امرأة نصرانية عجوز كانت لها حاجة عنده
فقال لها: أسلمي تسلمي؛ إن الله بعث محمداً بالحق، فقالت: أنا عجوز كبيرة، والموت
إليَّ أقرب، فقضى حاجتها، ولكنه خشي أن يكون في مسلكه هذا ما ينطوي على استغلال
حاجتها لمحاولة إكراهها على الإسلام، فاستغفر الله مما فعل وقال: اللهم إني أرشدت
ولم أكره
[130]، وكان لعمر رضي الله عنه عبد نصراني اسمه أشق حدّث فقال: كنت عبداً
نصرانياً لعمر، فقال أسلم حتى نستعين بك على بعض أمور المسلمين، لأنه لا ينبغي لنا
أن نستعين على أمورهم بمن ليس منهم، فأبيت فقال: لا إكراه في الدين. فلما حضرته
الوفاة أعتقني وقال: اذهب حيث شئت
[131]، وقد كان أهل الكتاب يمارسون شعائر دينهم وطقوس عبادتهم في معابدهم
وبيوتهم، ولم يمنعهم أحد من ذلك لأن الشريعة الإسلامية حفظت لهم حق الحرية في
الاعتقاد، وقد أورد الطبري في العهد الذي كتبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهل
إيليا القدس ونص فيه على إعطاء الأمان لأهل إيلياء على أنفسهم وأموالهم وصلبانهم
وكنائسهم
[132]،وكتب والي عمر بمصر عمرو بن العاص لأهل مصر عهداً جاء فيه؛ بسم الله
الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم
وأموالهم وكنائسهم وصلبهم وبرهم وبحرهم وأكد ذلك العهد بقوله: على ماضي هذا الكتاب
عهد الله وذمة رسوله وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين
[133]، وقد اتفق الفقهاء[134]، على أن لأهل الذمة لهم ممارسة شعائرهم الدينية وأنهم لا يمنعون من ذلك
مالم يظهروا، فإن أرادوا ممارسة شعائرهم إعلاناً وجهراً كإخراجهم الصلبان يرون
منعهم من ذلك في أمصار المسلمين، وعدم منعهم في بلدانهم وقراهم
[135].


يقول الشيخ الغزالي عن كفالة الإسلام لحرية المعتقد إن الحرية الدينية
التي كفلها الإسلام لأهل الأرض، لم يعرف لها نظير في القارات الخمس، ولم يحدث أن
انفرد دين بالسلطة، ومنح مخالفيه في الاعتقاد كل أسباب البقاء والازدهار، مثل ما
صنع الإسلام
[136].


لقد حرص الفاروق على تنفيذ قاعدة حرية الاعتقاد في المجتمع ولخص سياسته
حيال النصارى واليهود بقوله: وإنما أعطيناهم العهد على أن نخلي بينهم وبين كنائسهم
يقولون فيها ما بدا لهم، وأن لا نحملهم ما لا يطيقون، وإن أرادهم عدوهم بسوء قاتلنا
دونهم، وعلى أن نخلي بينهم وبين أحكامهم، إلا أن يأتوا راضين بأحكامنا فنحكم بينهم
وإن غيبوا عنا لم نتعرض لهم
[137].


وقد ثبت عن عمر أنه كان شديد التسامح مع أهل الذمة، حيث كان يعفيهم من
الجزية عندما يعجزون عن تسديدها، فقد ذكر أبو عبيد في كتاب الأموال: أن عمر – رضي
الله عنه – مر بباب قوم وعليه سائل يسأل – شيخ كبير ضرير البصر – فضرب عضده من خلفه
وقال من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال يهودي، قال فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل
الجزية والحاجة والسن، قال: فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله فرضخ له بشيء من
المنزل
[138]، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وضرباءه فو الله ما
أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه
[139]، وقد كتب إلى عماله معمّماً عليهم هذا الأمر[140] وهذه
الأفعال تدل على عدالة الإسلام وحرص الفاروق أن تقوم دولته على العدالة والرفق
برعاياها ولو كانوا من غير المسلمين، وقد بقيت الحرية الدينية معلماً بارزاً في عصر
الخلافة الراشدة، مكفولة من قبل الدولة، ومصانه بأحكام التشريع
الرباني.


2- حرية التنقل أو حرية الغدو والرواح:


حرص
الفاروق على هذه الحرية حرصاً شديداً ولكنه قيدها في بعض الحالات الاستثنائية التي
استدعت ضرورة لذلك، أما الحالات الاستثنائية التي جرى فيها تقييد حرية التنقل أو
حرية المأوى فهي قليلة جداً، ويكفينا أن نشير إلى الحالتين نظراً لأهميتها:


أ‌-       أمسك عمر كبار الصحابة في المدينة ومنعهم من الذهاب إلى الأقطار
المفتوحة إلا بإذن منه أو لمهمة رسمية كتعيين بعضهم ولاة أو قادة للجيوش وذلك حتى
يتمكن من أخذ مشورتهم والرجوع إليها فيما يصادفه من مشاكل في الحكم  ويحول في الوقت نفسه دون وقوع أية فتنة أو
انقسام في صفوف المسلمين في حال خروجهم للأمصار واستقرارهم فيها
[141]، فقد
كان من حكمته السياسية ومعرفته الدقيقة لطبائع الناس ونفسيتهم، أنه حصر كبار
الصحابة في المدينة، وقال: أخوف ما أخاف على هذه الأمة انتشاركم في البلاد
[142]، وكان
يعتقد أنه إذا كان التساهل في هذا الشأن، نجمت الفتنة في البلاد المفتوحة، والتفَّ
الناس حول الشخصيات المرموقة، وثارت حولها الشبهات، وكثرت القيادات والرايات، وكان
من أسباب الفوضى
[143]، لقد
خشي عمر رضي الله عنه: من تعدد مراكز القوى السياسية والدينية داخل الدولة
الإسلامية، حيث يصبح لشخص هذا الصحابي الجليل أو ذاك هالة من الإجلال والاحترام على
رأيه، ترقى به إلى مستوى القرار الصادر من السلطة العامة، وتجنباً لتعدد مراكز
القوى، وتشتت السلطة، فقد رأى عمر إبقاء كبار الصحابة، داخل المدينة يشاركونه في
صناعة القرار، ويتجنبون فوضى الاجتهاد الفردي، ولولا هذا السند الشرعي لكان القرار
الصادر عن عمر – رضي الله عنه – غير مجد ولا ملزم لافتقاده لسببه الشرعي الذي
يسوغه؛ إذ التصرف على الرعية منوط بالمصلحة
[144].


ب‌-      وأما الحالة الثانية فقد حصلت
عندما أمر عمر بإجلاء نصارى نجران ويهود خيبر من قلب البلاد العربية إلى العراق
والشام وسبب ذلك أن يهود خيبر ونصارى نجران لم يلتزموا بالعهود والشروط التي
أبرموها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وجددوها مع الصديق، فقد كانت مقرات يهود
خيبر ونصارى نجران أوكاراً للدسائس والمكر فكان لا بد من إزالة تلك القلاع
الشيطانية، وإضعاف قواتهم، أما بقية النصارى واليهود، كأفراد فقد عاشوا في المجتمع
المدني يتمتعون بكافة حقوقهم، روى البيهقي في سننه وعبد الرزاق بن همام الصنعاني في
مصنفه عن ابن المسيب وابن شهاب: أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: لا يجتمع
دينان في جزيرة العرب. قال مالك، قال ابن شهاب: ففحص عن ذلك عمر بن الخطاب – رضي
الله عنه – حتى أتاه الثلج واليقين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا
يجتمع دينان في جزيرة العرب، فأجلى يهود خيبر. قال مالك: قد أجلى عمر بن الخطاب –
رضي الله عنه – يهود نجران وفدك
[145]. 


لقد
كانت نبوة النبي صلى الله عليه وسلم بالنسبة للصحابة يقيناً ولذلك لم يستطع اليهود

ولا نصارى نجران أن يلتزموا بعهودهم مع المسلمين لشدة عداوتهم وبغضهم وحسدهم
للإسلام والمسلمين، فاليهود في خيبر كان من أسباب إجلائهم ما رواه ابن عمر – رضي
الله عنهما – قال: لما فدع
[146] أهل
خيبر عبد الله بن عمر قام عمر خطيباً فقال: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم –
عامل يهود خيبر على أموالهم وقال: نقركم ما أقركم الله، وإن عبد الله بن عمر خرج
إلى ماله هناك فعدي عليه من الليل، ففدعت يداه ورجلاه وليس لنا هناك عدو غيره هم
عدونا وتهمتنا وقد رأيت إجلاءهم فلما أجمع عمر على ذلك أتاه أحد بني الحقيق فقال:
يا أمير المؤمنين أتخرجنا وقد أقرنا – محمد صلى الله عليه وسلم – وعاملنا على
الأموال وشرط ذلك لنا؟ فقال عمر: أظننت أني نسيت قول رسول الله – صلى الله عليه
وسلم -: كيف بك  إذا أخرجت من خيبر تعدو بك
قلوصك
[147]، ليلة
بعد ليلة؟ فقال: كان ذلك هزيلة من أبي القاسم فقال: كذبت ياعدو الله. فأجلاهم عمر،
وأعطاهم قيمة ما كان لهم من الثمر مالاً وإبلاً وعروضاً من أقتاب وحبال وغير
ذلك
[148] لقد
غدر اليهود ونقضوا عهودهم، فكان طبيعياً أن يخرجوا من جزيرة العرب تنفيذاً لوصية
رسول الله فأجلاهم عمر إلى تيماء وأريحا، وأما نصارى نجران فلم يلتزموا بالشروط
والعهود التي أبرموها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجددوها مع الصديق؛فأخلوا
ببعضها وأكلوا الربا وتعاملوا به، فأجلاهم الفاروق من نجران إلى العراق وكتب لهم:
أما بعد .. فمن وقع به من أمراء الشام أو العراق فليوسعهم خريب الأرض
[149]، وما
اعتملوا من شيء فهو لهم لوجه الله وعقب من أرضهم  فأتوا العراق فاتخذوا النجرانية وهي قرية
بالكوفة
[150]، وذكر
أبو يوسف أن الفاروق خاف من النصارى على المسلمين
[151]،
وبذلك تتجلى سياسة الفاروق فيما فعل من إخراجهم بعد توفر أسباب أخرى إضافة إلى وصية
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتجلى فقه الفاروق في توجيه الضربات المركزة إلى
مقرات اليهود في خيبر، والنصارى في نجران بعد أن وجد المبررات اللازمة لإخراجهم من
جزيرة العرب بدون ظلم أو عسف أو جور، وهكذا منع أوكار الدسائس والمكر من أن تأخذ
نفساً طويلاً للتخطيط من أجل القضاء على دولة الإسلام
الفتية.


3- حق الأمن، وحرمة المسكن، وحرية الملكية:


إن
الإسلام أقر حق الأمن في العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، قال
تعالى:
} فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ { البقرة، آية:193.
وقال أيضاً:
} فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ
{ البقرة، آية194.
وقد عرف الإسلام أيضاً حق الحياة الذي هو أوسع من حق الأمن، لأن هذا الأخير
يتضمن فعلاً سلبياً من جانب الدولة يعبر عنه بالامتناع عن الاعتداء أو التهديد في
حين أن حق الحياة يتضمن علاوة على ذلك فعلاً إيجابياً وهو حماية الإنسان ودمه من أي
اعتداء أو تهديد ويجعل هذه الحماية مسؤولية عامة ملقاة على عاتق الناس كافة، لأن
الاعتداء بدون حق على أحدهم هو بمثابة الاعتداء عليهم جميعاً[152]،
قال تعالى:
} مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض
فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا
النَّاسَ جَمِيعًا
{ المائدة،آية:32.
ومن المنطلق القرآني والممارسة النبوية تكفل الفاروق في عهده للأفراد بحق الأمن
وحق الحياة وسهر على تأمينهما وصيانتهما من أي عبث أو تطاول وكان الفاروق رضي الله
عنه يقول: إني لم أستعمل عليكم عمالي ليضربوا أبشاركم ويشتموا أعراضكم ويأخذوا
أموالكم، ولكن استعملتهم ليعلموكم كتاب ربكم وسنة نبيكم فمن ظلمه عامله بمظلمة
فليرفعها إليَّ حتى أقصه منه[153]،
وجاء عن عمر أيضاً قوله: ليس الرجل بمأمون على نفسه أن أجعته أو أخفته أو حبسته أن
يقر على نفسه[154]،
وقوله
هذا يدل على عدم جواز الحصول على الإقرار والاعتراف من مشتبه به في
جريمة تحت الضغط أو التهديد سواء أكانت الوسيلة المستعملة بذلك مادية كحرمانه من
عطائه أو مصادرة أمواله أو معنوية كاللجوء إلى تهديده أم تخويفه بأي نوع من العقاب
وجاء في كتابه لأبي موسى الأشعري بصفته قاضياً: واجعل للمدعي حقاً غائباً أو بينة
أمداً ينتهي إليه فإن أحضر بينته أخذت له بحقه وإلا وجهت عليه القضاء فإن ذلك أنفى
للشك[155]
وهذا القول يدل على أن حق الدفاع كان محترماً ومصاناً[156]،
وفيما يتعلق بحرمة المسكن، فإن الله سبحانه حرم دخول البيوت والمساكن بغير موافقة
أهلها أو بغير الطريقة المألوفة لدخولها، فقال سبحانه بهذا
الشأن
} لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا
وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ27
0فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ
وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ 
{ النور، آية:
27-28.


وقال
أيضاً
} وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا { البقرة: 189، كما
قال:
}ولا
تَجسَّسُوا
{ وقد كانت حرمة المسكن مكفولة ومصانة في عهد الفاروق وعصر الخلفاء
الراشدين[157]،
وأما حرية الملكية فقد كانت مكفولة ومصانة في عصر الراشدين ضمن أبعد الحدود التي
تقرها الشريعة الإسلامية في هذا المجال فحين اضطر عمر رضي الله عنه، لأسباب سياسية
وحربية بإجلاء نصارى نجران ويهود خيبر من قلب شبه الجزيرة العربية، إلى العراق
والشام أمر بإعطائهم أرضاً كأرضهم في الأماكن التي انتقلوا إليها احتراماً منه
وإقراراً لحق الملكية الفردية الذي يكفله الإسلام لأهل الذمة مثلما يكفله
للمسلمين[158]،
وعندما اضطر عمر إلى نزع ملكية بعض الدور من أجل العمل على توسيع المسجد الحرام في
مكة، ولم يكن دفعه للتعويض العادل إلا اعترافاً منه وإقراراً بحق الملكية الفردية
التي لا يجوز مصادرتها حتى في حالة الضرورة إلا بعد إنصاف أصحابها[159]،
وحرية الملكية لم تكن في عهد الراشدين مطلقة وإنما هي مقيدة بالحدود الشرعية
وبمراعاة المصلحة العامة، فقد روي أن بلالاً بن الحارث المزني جاء إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم يطلب منه أن يستقطعه أرضاً، فأقطعه أرضاً طويلة عريضة، فلما آلت
الخلافة إلى عمر رضي الله عنه، قال له: يا بلال، إنك استقطعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم أرضاً طويلة عريضة فقطعها لك، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن
يمنع شيئاً يسأله، وأنت لا تطيق ما في يدك فقال أجل: فقال عمر: فانظر ما قويت عليه
منها فأمسكه، وما لم تطق وما لم تقو عليه فادفعه إلينا نقسمه بين المسلمين، فقال لا
أفعل والله شيئاً أقطعنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: والله لتفعلن،
فأخذ عمر ما عجز عن عمارته فقسمه بين المسلمين[160]
وهنا يدل على أن الملكية الفردية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمصلحة الجماعة فإن
أحسن المالك القيام بما يتطلبه معنى الاستخلاف في الرعاية والاستثمار فليس لأحد أن
ينازعه ملكه، وإلا فإن لولي الأمر أن يتصرف بما يحول دون إهماله[161].


4- حرية الرأي:


كفل
الإسلام للفرد حرية الرأي كفالة تامة، وقد كانت هذه الحرية مؤمنة ومصانة في عهد
الخلفاء الراشدين، فكان عمر رضي الله عنه يترك الناس يبدون آراءهم السديدة ولا
يقيدهم ولا يمنعهم من الإفصاح عما تكنه صدورهم[162]،
ويترك لهم فرصة الاجتهاد في المسائل التي لا نص فيها، فعن عمر أنه لقي رجلاً فقال:
ما صنعت؟ قال؟ قضى علي وزيد بكذا قال: لو كنت أنا لقضيت بكذا، قال: فما منعك والأمر
إليك؟ قال: لو كنت أردك إلى كتاب الله أو إلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم لفعلت،
ولكني أردك إلى رأي، والرأي مشترك ما قال علي وزيد[163]،
وهكذا ترك الفاروق الحرية للصحابة يبدون آراءهم في المسائل الاجتهادية ولم يمنعهم
من الاجتهاد ولم يحملهم على رأي معين[164]،
وكان النقد أو النصح للحاكم في عهد الفاروق والخلفاء الراشدين مفتوحاً على مصراعيه،
فقد قام الفاروق رضي الله عنه يخطب فقال: أيها الناس من رأى منكم فيّ اعوجاجاً
فليقومه، فقام له رجل وقال: والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا، فقال
عمر: الحمد لله الذي جعل في هذه الأمة من يقوم اعوجاج عمر بسيفه[165]،
وقد جاء في خطبة عمر لما تولى الخلافة: أعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، وإحضاري النصيحة[166]،
واعتبر الفاروق ممارسة الحرية السياسية البناءة النصيحة تعد واجباً على الرعية ومن
حق الحاكم أن يطالب بها: أيها الرعية إن لنا عليكم حقاً: النصيحة بالغيب والمعاونة
على الخير[167]،
وكان يرى أن من حق أي فرد في الأمة أن يراقبه ويقوم اعوجاجه ولو بحد السيف إن هو
حاد عن الطريق، فقال: أيها الناس من رأى منكم فيّ اعوجاجاً فليقومه[168]،
وكان يقول: أحب الناس إليّ من رفع إليّ عيوبي[169]،
وقال أيضاً: إني أخاف أن أخطئ فلا يردني أحد منكم تهيباً مني[170]،
وجاءه يوماً رجل فقال له على رؤوس الأشهاد: اتق الله يا عمر: فغضب بعض الحاضرين من
قوله وأرادوا أن يسكتوه عن الكلام، فقال لهم عمر: لا خير فيكم إذا لم تقولوها ولا
خير فينا إذا لم نسمعها[171]،
ووقف ذات يوم يخطب في الناس فما كاد يقول: أيها الناس اسمعوا وأطيعوا حتى قاطعه
أحدهم قائلاً: لا سمع ولا طاعة يا عمر، فقال عمر بهدوء: لم يا عبد الله؟ قال: لأن
كلاً منا أصابه قميص واحد من القماش لستر عورته. فقال له عمر: مكانك، ثم نادى ولده
عبد الله بن عمر، فشرح عبد الله أنه قد أعطى أباه نصيبه من القماش ليكمل به ثوبه،
فاقتنع الصحابة وقال الرجل في احترام وخشوع: الآن السمع والطاعة يا أمير المؤمنين[172]
وخطب ذات يوم، فقال: لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية، وإن كانت
بنت ذي القصة –يعني يزيد بن الحصين- فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال، فقالت
امرأة معترضة على ذلك: ما ذاك لك قال: ولم؟ قالت: لأن الله تعالى قال:
} وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ
شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا20 
{ النساء،آية:20. فقال عمر: امرأة أصابت ورجل
أخطأ[173]،
وجاء في رواية: أنه قال: اللهم غفراً كل إنسان أفقه من عمر، ثم رجع فركب المنبر
فقال: أيها الناس إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربع مئة درهم،
فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب وطابت به نفسه فليفعل[174]  وليست حرية الرأي مطلقة في نظر الشريعة
فليس للإنسان أن يفصح في كل ما يشاء، بل هي مقيدة بعدم مضرة الآخرين بإبداء الرأي،
سواء كان الضرر عاماً أو خاصاً، ومما منعه عمر رضي الله عنه وحظره
وقيده.


أ‌)       الآراء الضالة المضلة في الدين واتباع
المتشابهات:
ومن
ذلك قصة النبطي الذي أنكر القدر بالشام[175]
فقد اعترض على عمر –رضي الله عنه- وهو يخطب بالشام حينما قال عمر: ومن يضلل
الله فلا هادي له، فاعترض النبطي منكراً للقدر، قائلاً: إن الله لا يضل أحداً!
فهدده عمر بالقتل إن أظهر مقولته القدرية مرة أخرى[176]،
وعن السائب بن يزيد أنه قال: أتى رجل عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- فقال: يا أمير
المؤمنين:
} وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا1 فَالْحَامِلاَتِ وِقْرًا2
{ الذاريات،آية:21 فقال عمر –رضي الله عنه- أنت هو؟
فقام إليه وحسر[177]،
عن ذراعيه، فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته، فقال: والذي نفس عمر بيده لو وجدتك
محلوقاً لضربت رأسك، ألبسوه ثيابه، واحملوه على قِتْب[178]،
ثم اخرجوا حتى تقدموا به بلاده، ثم ليقم خطيباً ثم ليقل: إن صبيغاً[179]،ابتغى
العلم فأخطأه، فلم يزل وضيعاً في قومه حتى هلك[180].


ب والوقوع في أعراض الناس بدعوى الحرية:


وقد
حبس عمر –رضي الله عنه- الحطيئة[181]
من أجل هجائه الزبرقان بن بدر[182]
بقوله:


دع
المكارم لا ترحل لبغيتها           واقعد
فإنك أنت الطاعم الكاسي[183]


لأنه
شبهه بالنساء في أنهن يطعمن ويسقين ويكسين[184]
وقد توعد عمر الحطيئة بقطع لسانه إذا تمادى في هجو المسلمين ونهش أعراضهم،
وقد استعطفه الحطيئة وهو في سجنه بشعر منه قوله:










ماذا أقول لأفراخ بذي مرخ
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة
أنت الأمير
الذي من بعد صاحبه







زغب الحواصل لا ماء ولا شجر فاغفر عليك سـلام الله يا عمر
ألقى إليك
مقاليد النهى البشـر




فرق له
قلب عمر وخلى سبيله، وأخذ عليه ألا يهجو أحداً من المسلمين[185]،
وقد ورد أن الفاروق اشترى أعراض المسلمين من الحطيئة بمبلغ ثلاثة آلاف درهم حتى قال
ذلك الشاعر:










أخذت أطراف الكلام فلم تدع
ومنعتني عرض البخيل فلم يخف







شتما يضر ولا مديحاً ينفع
شتمي وأصبح آمنا لا يفزع[186]




5- رأي عمر في الزواج
بالكتابيات:


لما
علم عمر رضي الله عنه أن حذيفة بن اليمان تزوج يهودية كتب إليه: خل سبيلها، فكتب
إليه حذيفة: أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها؟ فقال لا أزعم أنها حرام، ولكني أخاف أن
تعاطوا المومسات منهن: وفي رواية إني أخشى أن تدعوا المسلمات وتنكحوا المومسات[187].


قال
أبو زهرة: يجب أن نقرر هنا أن الأولى للمسلم ألا يتزوج إلا مسلمة لتمام الألفة من
كل وجه ولقد كان عمر –رضي الله عنه- ينهى عن الزواج بالكتابيات إلا لغرض سام
كارتباط سياسي يقصد به جمع القلوب وتأليفها أو نحو
ذلك ... [188].


لقد
بين المولى عز وجل في كتابه بأن الزواج بالمؤمنة ولو كانت أمة أولى من الزواج
بالمشركة ولو كانت حرة قال تعالى:
} وَلاَ تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلاَمَةٌ
مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُوا
الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ
أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى
الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ221
{ البقرة،آية:221، ففي هذه الآيات الكريمة ينهى
الحق سبحانه وتعالى عن الزواج بالمشركات حتى يؤمن بالله ويصدقن نبيه، وحكم بأفضلية
الأمة المؤمنة بالله ورسوله -وإن كانت سوداء رقيقة الحال- على المشركة الحرة وإن
كانت ذات جمال وحسب ومال، ويمنع في المقابل المؤمنات من الزواج بالمشركين ولو كان
المشرك أحسن من المؤمن في جماله وماله وحسبه[189]،
وإذا كان الزواج بالمشركة حراماً بنص هذه الآية فإن الزواج بالكتابية جائز بنص آخر
وهو قوله تعالى:
} وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ
{ المائدة،آية:5 وهو نص مخصص للعموم في النص الأول،
هذا هو رأي الجمهور[190]،
إلا أنهم قالوا إن الزواج بالمسلمة أفضل، هذا فيما إذا لم تكن هنالك مفاسد تلحق
الزوج أو الأبناء أو المجتمع المسلم، أما إن وجدت مفاسد فإن الحكم هو المنع، وهذا
ماذهب إليه بعض العلماء المعاصرين[191]،
وهو رأي سبق إليه عمر بن الخطاب: إذ هو أول من منع الزواج بالكتابيات مستنداً في
ذلك إلى حجتين:


أ‌-              
لأنه
يؤدي إلى كساد الفتيات المسلمات وتعنيسهن.


ب‌-    لأن الكتابية تفسد أخلاق الأولاد المسلمين ودينهم وهما حجتان كافيتان في
هذا المنع، إلا أنه إذا نظرنا إلى عصرنا فإننا سنجد مفاسد أخرى كثيرة استجدت تجعل
هذا المنع أشد[192]،
وقد أورد الأستاذ جميل محمد مبارك مجموعة من هذه المفاسد
منها:


أ‌-          قد تكون للزوجة من أهل الكتاب مهمة التجسس على
المسلمين.


ب‌-      دخول عادات الكفار إلى بلاد
المسلمين.


ت‌-      تعرض المسلم للتجنس بجنسية
الكفار.


ث‌-   جهل المسلمين المتزوجين
بالكتابيات مما يجعلهم عجينة سهلة التشكيل في يد
الكتابيات.


ج‌-       شعور المتزوجين بالكتابيات
بالنقص وهو أمر أدى إليه الجهل بدين الله[193].


وهي
مفاسد كافية للاستدلال على حرمة الزواج بالكتابية في عصرنا.


إن
القيود التي وضعها عمر على الزواج بالكتابيات تنسجم مع المصالح الكبرى للدولة
والأهداف العظمى للمجتمعات الإسلامية، فقد عرفت الأمم الواعية ما في زواج أبنائها
بالأجنبيات من المضار، وما يجلبه هذا الزواج من أخطار تعيب الوطن عفواً أو قصداً،
فوضعت لذلك قيوداً وبالذات للذين يمثلونها في المجالات العامة، وهو احتياط له
مبرراته الوجيهة، فالزوجة تعرف الكثير من أسرار زوجها إن لم تكن تعرفها كلها، على
قدر ما بينهم من مودة وانسجام، ولقد كان لهذه الناحية من اهتمام عمر رضي الله عنه
مقام الأستاذية الحازمة الحاسبة لكل من جاء بعده كحاكم على مر الزمان، إن الزواج من
الكتابيات فيه مفاسد عظيمة، فإنهن دخيلات علينا ويخالفننا في كل شيء، وأكثرهن يبقين
على دينهن، فلا يتذوقن حلاوة الإسلام وما فيه من وفاء وتقدير للزوج، قدر عمر كل ذلك
بفهمه لدينه، وبصائب تقديره، لطبائع البشر، وبحسن معرفته لما ينفع المسلمين وما
يضرهم، فأصدر فيه أوامره وعلى الفور وفي حسم[194]
لقد كانت الحرية في العهد الراشدي مصونة ومكفولة ولها حدودها وقيودها ولذلك
ازدهر المجتمع وتقدم في مدار الرقي، فالحرية حق أساسي للفرد والمجتمع، يتمتع بها في
تحقيق ذاته وإبراز قدراته، وسلب الحرية من المجتمع سلب لأهم مقوماته فهو أشبه
بالأموات.


إن
الحرية في الإسلام إشعاع داخلي ملأ جنبات النفس الإنسانية بارتباطها بالله، فارتفع
الإنسان بهذا الارتباط إلى درجة السمو والرفعة، فأصبحت النفس تواقة لفعل الصالحات
والمسارعة في الخيرات ابتغاء رب الأرض والسماوات، فالحرية في المجتمع الإسلامي
دعامة من دعائمه تحققت في المجتمع الراشدي في أبهى صور انعكست أنوارها على صفحات
الزمان[195].


ثامناً: نفقات الخليفة، والبدء بالتاريخ الهجري ولقب أمير
المؤمنين:


1- نفقات الخليفة:


لما
كانت الخلافة دينا وقربة يتقرب بها إلى الله تعالى، فإن من يتولاها ويحسن فيها فإنه
يرجى له مثوبته، وجزاؤه عند الله سبحانه وتعالى، فإنه يجازي المحسن، بإحسانه،
والمسيء بإساءته[196]،
قال تعالى:
} فَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ
كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ94
{ الأنبياء،آية:94 ذلك بالنسبة للجزاء الأخروي،
وأما بالنسبة للجزاء الدنيوي فإن الخليفة الذي يحجز منافعه الصالحة للأمة، ويعمل
على أداء الواجب نحوها يستحق عوضاً على ذلك، إذ أن المنافع إذا حجزت قوبلت بعوضين[197]،
فالقاعدة الفقهية أن كل محبوس لمنفعة غيره يلزمه نفقته، كمفت وقاض ووال[198]،
وأخذ العوض على تولي الأعمال مشروع بإعطاء النبي صلى الله عليه وسلم العمال[199]
لمن ولاه عملاً[200]
ولما ولي عمر بن الخطاب أمر المسلمين بعد
أبي بكر مكث زماناً، لا يأكل من بيت
المال شيئاً حتى دخلت عليه في ذلك خصاصة، لم يعد يكفيه ما يربحه من تجارته، لأنه
اشتغل عنها بأمور الرعية، فأرسل إلى أصحاب رسول الله فاستشارهم في ذلك فقال: قد
شغلت نفسي في هذا الأمر فما يصلح لي فيه؟ فقال عثمان بن عفان: كل وأطعم، وقال ذلك
سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل[201]،
وقال عمر لعلي: ما تقول أنت في ذلك؟ قال: غداء وعشاء، فأخذ عمر بذلك، وقد بين عمر
حظه من بيت المال فقال: إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة قيم اليتيم، إن استغنيت
عنه تركت، وإن افتقرت إليه أكلت بالمعروف[202]،
وجاء في رواية أن عمر خرج على جماعة من الصحابة فسألهم
ما ترونه يحل لي من مال
الله؟ أو قال: من هذا المال؟ فقالوا: أمير المؤمنين أعلم بذلك منا، قال إن شئتم
أخبرتكم ما أستحل منه، ما أحج وأعتمر عليه من الظهر، وحلتي في الشتاء وحلتي في
الصيف، وقوت عيالي شبعهم، وسهمي في المسلمين، فإنما أنا رجل من المسلمين، قال معمر:
وإنما كان الذي يحج عليه ويعتمر بعيراً واحداً[203]،
وقد ضرب الخليفة الراشد الفاروق للحكام أروع الأمثلة في أداء الأمانة فيما تحت
أيديهم، فقد روى أبو داود عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: ذكر عمر بن الخطاب يوماً
الفيء فقال: ما أنا بأحق بهذا الفيء منكم، وما أحد منا بأحق به من أحد، إلا أنا على
منازلنا من كتاب الله عز وجل وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فالرجل وقدمه،
والرجل وبلاؤه، والرجل وعياله، والرجل وحاجته[204]،
وعن الربيع بن زياد الحارثي أنه وفد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأعجبته هيئته
ونحوه، فقال: يا أمير المؤمنين إن أحق الناس بطعام لين، ومركب لين، وملبس لين لأنت
-وكان أكل طعاماً غليظاً- فرفع عمر جريدة كانت معه فضرب بها رأسه، ثم قال: أما
والله ما أراك أردت بها الله، ما أردت بها إلا مقاربتي، وإن كنت لعلّها: لأحسب أن
فيك خيراً، ويحك هل تدري مثلي ومثل هؤلاء؟ قال: وما مثلك ومثلهم، قال مثل قوم
سافروا فدفعوا نفقاتهم إلى رجل منهم، فقالوا: أنفق علينا، فهل يحل له أن يستأثر
منها بشيء؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، قال فذلك مثلي ومثلهم[205]،
وقد استنبط الفقهاء من خلال الهدى النبوي والعهد الراشدي مجموعة من الأحكام تتعلق
بنفقات الخليفة منها:


أ‌-      أنه يجوز للخليفة أن يأخذ عوضاً عن عمله، وقد نص النووي[206]،
وابن العربي[207]،
والبهوتي[208]،
وابن مفلح[209]
على جواز ذلك.


ب‌-               
وأن
الخليفتين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما قد أخذا رزقاً على
ذلك.


ث-  وأن أخذ الرزق هو مقابل
انشغالهما في أمور المسلمين كما قاله أبو بكر وعمر رضي الله
عنهما.


ت‌-    وأن الخليفة له أن يأخذ ذلك سواء كان بحاجة إليه أولا، ويرى ابن
المنير[210]،
أن الأفضل له أن يأخذ، لأنه لو أخذ كان أعون في عمله مما لو ترك، لأنه بذلك يكون
مستشعراً بأن العمل واجب عليه[211].


2- بدء التاريخ:


يعد
التاريخ بالهجرة تطوراً له خطره في النواحي الحضارية، وكان أول من وضع التاريخ
بالهجرة عمر، ويحكى في سبب ذلك عدة روايات، فقد جاء عن ميمون بن مهران أنه قال:
دُفع إلى عمر رضي الله عنه صَكٌ محله في شعبان، فقال عمر: شعبان هذا الذي مضى أو
الذي هو آت أو الذي نحن فيه، ثم جمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم:
ضعوا للناس شيئاً يعرفونه، فقال قائل: اكتبوا على تاريخ الروم فقيل: إنه يطول وإنهم
يكتبون من عند ذي القرنين، فقال قائل: اكتبوا تاريخ الفرس قالوا: كلما قام ملك طرح
ما كان قبله، فاجتمع رأيهم على أن ينظروا كم أقام رسول الله بالمدينة فوجدوه أقام
عشرة سنين فكتب أو كتب التاريخ على هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم[212]،
وعن عثمان بن عبيد الله[213]،
قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: جمع عمر بن الخطاب المهاجرين والأنصار رضي الله
عنهم فقال: متى نكتب التاريخ؟ فقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه: منذ خرج النبي
صلى الله عليه وسلم من أرض الشرك، يعني من يوم هاجر، قال: فكتب ذلك عمر بن الخطاب
رضي الله عنه[214]،
وعن ابن المسيب قال: أول من كتب التاريخ عمر بن الخطاب رضي الله عنه لسنتين ونصف من
خلافته، فكتب لست عشرة من المحرم بمشورة على بن أبي طالب رضي الله عنه[215]،
وقال أبو الزناد[216]:
استشار عمر في التاريخ فأجمعوا على الهجرة[217]،
وروى ابن حجر في سبب جعلهم بداية التاريخ في شهر محرم وليس في ربيع الأول الشهر
الذي تمت فيه هجرة النبي صلى الله عليه وسلم أن الصحابة الذين أشاروا على عمر وجدوا
أن الأمور التي يمكن أن يؤرخ بها أربعة، هي مولده ومبعثه وهجرته ووفاته، ووجدوا أن
المولد والمبعث لا يخلو من النزاع في تعيين سنة حدوثه، وأعرضوا عن التأريخ بوفاته
لما يثيره من الحزن والأسى عند المسلمين، فلم يبق إلا الهجرة، وإنما أخروه من ربيع
الأول إلى المحرم لأن ابتداء العزم على الهجرة كان من المحرم، إذ وقعت بيعة العقبة
الثانية في ذي الحجة، وهي مقدمة الهجرة، فكان أول هلال استهل بعد البيعة والعزم على
الهجرة هو هلال محرم، فناسب أن يُجعل مبتدأ.. ثم قال ابن حجر: وهذا أنسب ما وقعت
عليه من مناسبة الابتداء بالمحرم[218].


وبهذا
الحدث الإداري المتميز أسهم الفاروق في إحداث وحدة شاملة بكل ما تحمله الكلمة من
معنى في شبه الجزيرة، حيث ظهرت وحدة العقيدة بوجود دين واحد، ووحدة الأمة بإزالة
الفوارق، ووحدة الاتجاه باتخاذ تاريخ واحد، فاستطاع أن يواجه عدوه وهو واثق من
النصر[219].


3- لقب أمير المؤمنين:


لما
مات أبو بكر رضي الله عنه وكان يدعى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
المسلمون: من جاء بعد عمر قيل له: خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيطول
هذا، ولكن أجمعوا على اسم تدعون به الخليفة، يُدْعى به من بعده من الخلفاء، فقال
بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحن المؤمنون وعمر أميرنا، فدعي عمر أمير
المؤمنين فهو أول من سمي بذلك[220]،
وعن ابن شهاب: أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه سأل
أبا بكر ابن سليمان بن
أبي خيثمة[221]،
لم كان أبو بكر رضي الله عنه يكتب من
أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه
وسلم؟ ثم كان عمر رضي الله عنه يكتب بعده: من عمر بن الخطاب خليفة أبي بكر ومن أول
من كتب أمير المؤمنين فقال: حدثتني جدتي الشفاء[222]،
وكانت من المهاجرات الأول، وكان عمر إذا دخل السوق دخل عليها قال: كتب عمر بن
الخطاب إلى عامل بالعراق[223]،
أن ابعث إلي برجلين جلدين نبيلين، أسألهما عن العراق وأهله، فبعث إليه صاحب
العراقين بلبيد بن ربيعة، وعدي بن حاتم، فقدما المدينة فأناخا راحلتيهما بفناء
المسجد، ثم دخلا المسجد فوجدا عمرو بن العاص، فقالا له: ياعمرو استأذن لنا على أمير
المؤمنين، فدخل عمرو فقال السلام عليك يا أمير المؤمنين فقال له عمر: ما بدا لك في
هذا الاسم يا بن العاص؟ لتخرجن مما قلت: قال: نعم، قدم لبيد بن ربيعة وعدي بن حاتم
فقالا: استأذن لنا على أمير المؤمنين فقلت: أنتما والله أصبتما اسمه، إنه أمير ونحن
المؤمنون، فجرى الكتاب من ذلك اليوم[224]،
وفي رواية: أن عمر رضي الله عنه قال: أنتم المؤمنون وأنا أميركم فهو سمى نفسه[225]،
وبذاك يكون عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أول من سمي بأمير
المؤمنين


وأنه
لم يسبق إليه، وإذا نظر الباحث في كلام أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رأى أن
جميعهم قد اتفقوا على تسميته بهذا الاسم وسار له في جميع الأقطار في حال ولايته[226].


التنقل السريع