القائمة الرئيسية

الصفحات

ملازمت عمر ابن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم



كان عمر رضي الله عنه واحداً من المكيين الذين قرأوا وكتبوا في مجتمعه
الأمي، وهذا دليل على شغفه بالعلم منذ صغره، وسعيه ليكون واحداً من القلة القليلة،
الذين محوا أميتهم، وهذبوا أنفسهم، وتبوأوا مكانة مرموقة في عصر الرسالة، لمجموعة
مقومات، لعل منها إلمامه بالقراءة والكتابة وهو حدث له قيمته آنذاك


 وقد تلقى عمر دروسه
الأولى، وتعلم القراءة والكتابة على يدي حرب بن أمية والد أبي سفيان[1]،
وقد أهلته هذه الميزة، لأن يثقف نفسه بثقافة القوم آنذاك، وإن كنا نجزم أن الرافد
القوي الذي أثر في شخصية عمر وصقل مواهبه، وفجر طاقاته وهذب نفسه هو مصاحبته لرسول
الله صلى الله عليه وسلم وتتلمذه على يديه في مدرسة النبوة، ذلك أن عمر لازم الرسول
صلى الله عليه وسلم في مكة بعد إسلامه كما لازمه كذلك في المدينة المنورة – حيث سكن
العوالي – وهي ضاحية من ضواحي المدينة، وإن كانت قد اتصلت بها الآن وأصبحت ملاصقة
لمسجد الرسول، حيث امتد العمران، وتوسعت المدينة، وزحفت على الضواحي، في هذه
الضاحية نظم عمر نفسه، وحرص على التلمذة في حلقات مدرسة النبوة في فروع شتى من
المعارف والعلوم على يدي معلم البشرية وهاديها، والذي أدبه ربه فأحسن تأديبه، وقد
كان لا يفوته علم من قرآن، أو حديث أو أمر أو حدث أو توجيه قال عمر: كنت أنا وجار
لي من الأنصار من بني أمية بن زيد – وهي من عوالي المدينة – وكنا نتناوب النزول على
رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزلت جئت بخبر ذلك
اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك[2].


وهذا
الخبر يوقفنا على الينبوع المتدفق، الذي استمد منه عمر علمه وتربيته وثقافته، وهو
كتاب الله الحكيم، الذي كان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم منجماً على حسب
الوقائع والأحداث، وكان الرسول يقرأه على أصحابه، الذين وقفوا على معانيه، وتعمقوا
في فهمه، وتأثروا بمبادئه، وكان له عميق الأثر في نفوسهم وعقولهم وقلوبهم وأرواحهم
وكان عمر واحداً من هؤلاء الذين تأثروا بالمنهج القرآني في التربية والتعليم، وعلى
كل دارس لتاريخ عمر وحياته أن يقف وقفة متأملة أمام هذا الفيض الرباني الصافي، الذي
غذى المواهب وفجر العبقريات، ونمى ثقافة القوم، ونعني به القرآن الكريم، وقد حرص
عمر منذ أسلم على حفظ القرآن وفهمه وتأمله، وظل ملازماً للرسول يتلقى عنه ما أنزل
عليه، حتى تم له حفظ جميع آياته وسوره، وقد أقرأه الرسول صلى الله عليه وسلم بعضه
وحرص على الرواية التي أقرأه بها الرسول[3]
وكان لعمر أحياناً شرف السبق إلى سماع بعض آياته فور نزوله كما عني بمراجعة محفوظه
منه[4]،
فقد تربى عمر رضي الله عنه على المنهج القرآني وكان المربي له صلى الله عليه وسلم
وكانت نقطة البدء في تربية عمر هي لقاءه برسول الله صلى الله عليه وسلم، فحدث له
تحول غريب واهتداء مفاجئ بمجرد اتصاله بالنبي صلى الله عليه وسلم فخرج من دائرة
الظلام إلى دائرة النور، واكتسب الإيمان، وطرح الكفر، وقوي على تحمل الشدائد،
والمصائب في سبيل دينه الجديد وعقيدته السمحة، كانت شخصية رسول الله صلى الله عليه
وسلم المحرك الأول للإسلام، وشخصيته صلى الله عليه وسلم تملك قوى الجذب والتأثير
على الآخرين، فقد صنعه الله على عينه، وجعله أكمل صورة لبشر في تاريخ الأرض والعظمة
دائماً تحب، وتحاط من الناس بالاعجاب، ويلتف حولها المعجبون يلتصقون بها التصاقاً
بدافع الاعجاب والحب، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يضيف إلى عظمته تلك، أنه
رسول الله، متلقي الوحي من الله، ومبلغه إلى الناس، وذلك بعد آخر له أثره في تكييف
مشاعر ذلك المؤمن تجاهه، فهو لا يحبه لذاته فقط كما يُحب العظماء من الناس، ولكن
أيضاً لتلك النفحة الربانية التي تشمله من عند الله، فهو معه في حضرة الوحي الإلهي
المكرم، ومن ثم يلتقي في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم البشر العظيم والرسول
العظيم، ثم يصبحان شيئاً واحداً في النهاية، غير متميز البداية ولا النهاية. حب
عميق شامل للرسول البشر أو للبشر الرسول ويرتبط حب الله بحب رسوله ويمتزجان في
نفسه، فيصبحان في مشاعره هما نقطة ارتكاز المشاعر كلها، ومحور الحركة الشعورية
والسلوكية كلها كذلك.


كان
هذا الحب الذي حرك الرعيل الأول من الصحابة هو مفتاح التربية الإسلامية ونقطة
ارتكازها ومنطلقها الذي تنطلق منه[5]،
لقد حصل للصحابة ببركة صحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتربيتهم على يديه
أحوال إيمانية عالية، يقول سيد قطب عن تلك التزكية: إنها لتزكية، وإنه لتطهير ذلك
الذي كان يأخذهم به الرسول صلى الله عليه وسلم. تطهير للضمير والشعور، وتطهير للعمل
والسلوك، وتطهير للحياة الزوجية، وتطهير للحياة الاجتماعية، وتطهير ترتفع به النفوس
من عقائد الشرك إلى عقيدة التوحيد، ومن التصورات الباطلة إلى الاعتقاد الصحيح، ومن
الأساطير الغامضة إلى اليقين الواضح، وترتفع به من رجس الفوضى الأخلاقية إلى نظافة
الخلق الإيماني، ومن دنس الربا والسحت إلى طهارة الكسب الحلال، إنها تزكية شاملة
للفرد والجماعة، ولحياة السريرة، ولحياة الواقع، تزكية ترتفع بالانسان وتصوراته عن
الحياة كلها وعن نفسه ونشأته إلى آفاق النور التي يتصل فيها بربه، ويتعامل مع الملأ
العلوي الكريم[6].


لقد
تتلمذ عمر رضي الله عنه على يدي رسول الله، فتعلم منه القرآن الكريم والسنة
النبوية، وأحكام التلاوة وتزكية النفوس قال تعالى:
} لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ
رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ
وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي
ضَلاَلٍ مُبِينٍ164 
{ آل عمران،آية:164.


وحرص على التبحر في الهدي النبوي الكريم في غزواته، وسلمه وأصبح لعمر
رضي الله عنه علم واسع ومعرفة غزيرة بالسنة النبوية المطهرة، التي أثرت في شخصية
عمر وفقهه ولازم رسول الله صلى الله عليه وسلم واستمع من رسول الله وتلقى عنه وكان
إذا جلس في مجلس النبوة لم يترك المجلس حتى ينفض، كما كان حريصاً على أن يسأل
الرسولصلى الله عليه وسلم عن كل ما تجيش به نفسه، أو يشغل خاطره[7]،
لقد استمد من رسول الله علماً وتربية، ومعرفة بمقاصد هذا الدين العظيم وخصه رسول
الله صلى الله عليه وسلم برعايته، وشمله بتسديده، ولقد شهد له رسول الله صلى الله
عليه وسلم بالعلم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: بينما أنا نائم أتيت بقدح لبن،
فشربت منه حتى أني لأرى الري يخرج من أظافري، ثم أعطيت فضلي يعني
عمر.


قالوا:
فما أوَّلته يا رسول الله؟ قال: العلم[8].


قال
ابن حجر: والمراد بالعلم هنا العلم بسياسة الناس بكتاب الله وسنة رسول الله صلى
الله عليه وسلم[9].


وهذه
المعرفة لا يمكن تَأتِّيها إلا لمن كان راسخ القدم في التزود بما يعينه على فهم
كتاب الله، وسنة نبيه، وسبيله في ذلك: التعمّق في فهم اللغة وآدابها، والتمرس في
معرفة أساليبها، والتزود في كل ما يساعد على فهمها من معارف وخبرات، وكذلك كان عمر
رضي الله عنه[10]،
ولقد جمع بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين عمر حب شديد، والحب عامل هام في
تهيئة مناخ علمي ممتاز بين المعلم وبين تلميذه، يأتي بخير النتائج العلمية
والثقافية، لما له من عطاء متجدد وعمر قد أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حباً
جماً، وتعلق فؤاده به، وقدم نفسه فداء له، وتضحية في سبيل نشر دعوته، فقد جاء في
الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: 
لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين[11].
فقال له عمر: والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل أحد إلا من نفسي، فقال: لا يا
عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك  فقال:
فأنت أحب إلي من نفسي قال: الآن يا عمر[12].


واستأذن عمر يوماً إلى عمرة فقال له صلى الله عليه وسلم:  لا تنسنا يا أخي في  دعائك[13]
. فقال عمر: ما أحب أن لي بها ما طلعت عليه الشمس لقوله: يا أخي[14].


وهذا
الحب السامي الشريف هو الذي جعل عمر يلازم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع
غزواته، وقد أمده ذلك بخبرة ودربة ودراية بشؤون الحرب، ومعرفة بطبائع النفوس
وغرائزها، كما أن ملازمته للرسول صلى الله عليه وسلم وكثرة تحدثه معه، قد طبعه على
البلاغة والبيان والفصاحة وطلاقة اللسان، والتفنن في أوجه القول[15]
وفي النقاط القادمة سنبين بإذن الله تعالى مواقفه في الميادين الجهادية مع رسول
الله، وبعض الصور من حياته الاجتماعية بالمدينة في حياة النبي صلى الله عليه
وسلم.


أولاً:
عمر رضي الله عنه في ميادين الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم:


اتفق العلماء على أن عمر رضي الله عنه شهد بدراً، وأحداً، والمشاهد كلها
مع رسول الله ولم يغب عن غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم[16].


1- غزوة بدر:


شارك
عمر رضي الله عنه في غزوة بدر، وعندما استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه
قبل المعركة، تكلم أبو بكر رضي الله عنه أول من تكلم، فأحسن الكلام، ودعا إلى قتال
الكافرين، ثم الفاروق عمر رضي الله عنه فأحسن الكلام، ودعا إلى قتال الكافرين[17]،
وكان أول من استشهد من المسلمين يوم بدر مِهجع[18]
مولى عمر رضي الله عنه[19]،
وقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه خاله العاص بن هشام[20]
ضارباً بالقرابة عرض الحائط أمام رابطة العقيدة، بل كان يفخر بذلك تأكيداً لهذه
الفكرة وبعد انتهاء المعركة أشار بقتل أسارى المشركين، وفي تلك الحادثة دروس وعبر
عظيمة قد ذكرتها في كتابي السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث، وعندما وقع
العباس عمّ النبي في الأسر حرص عمر على هدايته وقال له: يا عباس أسلم، فوالله لئن
تسلم أحب إلي من أن يسلم الخطاب، وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله يعجبه إسلامك[21]،
وكان من بين الأسرى خطيب قريش سهيل بن عمرو، فقال لرسول الله: يا رسول الله، دعني
أنتزع ثنيتي سهيل بن عمرو فيدلع لسانه، فلا يقوم عليك خطيباً في موطن أبداً، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أمثل به فيمثل الله بي وإن كنت نبياً، وإن عسى أن
يقوم مقاماً لا تذمه[22]،
وهذا ما حدث فعلاً بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ هم عدد من أهل مكة
بالرجوع عن الإسلام، حتى خافهم والي مكة عتاب بن أسيد فتوارى، فقام سهيل بن عمرو،
فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر وفاة النبي وقال: إن ذلك لم يزد الإسلام إلا قوة فمن
رابنا ضربنا عنقه فتراجع الناس عن رأيهم[23]
وحدثنا عمر عن حديث سمعه من رسول الله عندما خاطب مشركي مكة الذي قتلوا ببدر، فعن
أنس قال: كنا مع عمر بين مكة والمدينة فتراءَيْنا الهلال، وكنتُ حديدَ البصر
فرأيته، فجعلت أقول لعمر: أما تراه؟ قال: سأراه وأنا مُستلقٍ على فراشي، ثم أخذ
يُحدثنا عن أهل بدر، قال: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لَيُرينا مصارعهم
بالأمس، يقول: هذا مصرع فلان غداً، إن شاء الله، وهذا مصرع فلان غداً إن شاء الله،
قال: فجعلوا يُصرعون عليها، قال: قلت: والذي بعثك بالحق، ما أخطؤوا تِيكَ، كانوا
يُصرَعون عليها ثم أمر بهم فطُرحُوا في بئر، فانطلق إليهم، فقال:  يا فلان، يا فلان، هل وجدتم ما وَعَدكم الله
حقاً، فإني وجدت ما وعدني الله حقاً  قال
عمر: يا رسول الله، اتكلم قوماً قد جَيَّفوا؟ قال: ما أنتم بأسمَعَ لما أقول منهم،
ولكن لا يستطيعون أن يُجيبوا[24]،
وعندما جاء عمير بن وهب إلى المدينة قبل إسلامه في أعقاب بدر يريد قتل رسول الله
صلى الله عليه وسلم، كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه في نفر من المسلمين يتحدثون عن
يوم بدر، ويذكرون ما أكرمهم الله به، وما أراهم في عدوهم، إذ نظر عمر إلى عمير بن
وهب وقد أناخ راحلته على باب المسجد متوشحاً سيفه، فقال: هذا الكلب عدو الله عمير
بن وهب، ما جاء إلا لشر وهو الذي حرش بيننا، وحرزنا للقوم يوم بدر. ثم دخل على رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء
متوشحاً سيفه. قال: فأدخله عليّ، قال: فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة[25]
سيفه في عنقه فلببه[26]،
بها وقال لمن كان معه من الأنصار: ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجلسوا
عنده، واحذروا عليه من هذا الخبيث، فإنه غير مأمون. ثم دخل به على رسول الله فلما
رآه رسول الله وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه قال: أرسله يا عمر، أدن يا عمير. فدنا
ثم قال: انعموا صباحاً وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم، فقال رسول الله: أكرمنا الله
بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام تحية أهل الجنة[27].فقال:
فما جاء بك يا عمير؟ قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه. قال: فما
بال السيف في عنقك؟ قال: قبحها الله من سيوف! وهل أغنت عنا شيئاً قال أصدقني، ما
الذي جئت له، قال: ما جئت إلا لذلك. قال: بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر،
فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت: لولا دين عليّ وعيال عندي لخرجت حتى أقتل
محمداً فتحمل لك صفوان بن أمية بدينك وعيالك، على أن تقتلني له، والله حائل بينك
وبين ذلك. قال عمير: أشهد أنك لرسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت
تأتينا به من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا
وصفوان، فوالله إني لأعلم ما أتاك به الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام، وساقني
هذا المساق، ثم شهد شهادة الحق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقهوا أخاكم في
دينه، وعلموه القرآن، وأطلقوا أسيره ففعلوا[28].


ومن
خلال هذه القصة يظهر الحس الأمني الرفيع الذي تميز به عمر بن الخطاب رضي الله عنه
فقد انتبه لمجيء عمير بن وهب وحذّر منه، وأعلن أنه شيطان ما جاء إلا لشر، فقد كان
تاريخه معروفاً لدى عمر، فقد كان يؤذي المسلمين في مكة وهو الذي حرّض على قتال
المسلمين في بدر، وعمل على جمع المعلومات عن عددهم، ولذلك شرع عمر في أخذ الأسباب
لحماية الرسول فمن جهته فقد أمسك بحمالة سيف عمير الذي في عنقه بشده فعطله عن
إمكانية استخدامه سيفه للاعتداء على الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر نفراً من
الصحابة بحراسة النبي صلى الله عليه وسلم[29].


2- غزوة أحد، وبني المصطلق والخندق:


من
صفات الفاروق الجهادية: علو الهمة، وعدم الصغار، والترفع عن الذلة حتى ولو بدت
الهزيمة تلوح أمامه، كما حدث في غزوة أحد، ثانية المعارك الكبرى التي خاضها رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فعند ما وقف أبو سفيان في نهاية المعركة وقال أفي القوم
محمد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تجيبوه فقال أفي القوم ابن أبي قحافة،
فقال لا تجيبوه فقال أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال: إن هؤلاء القوم قتلوا، فلو كانوا
أحياء لأجابوا. فلم يملك عمر رضي الله عنه نفسه فقال: كذبت يا عدو الله، أبقى الله
عليك ما يخزيك. قال أبو سفيان: أعل هبل[30]،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم أجيبوه. قالوا ما تقول؟ قال: قولوا الله أعلى وأجل.
قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أجيبوه
قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم، قال أبو سفيان يوم بيوم
بدر، والحرب سجال، وتجدون مُثلة لم آمر بها ولم تَسُؤني[31]
، وفي رواية قال عمر:  لا سواء
قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار[32].
فجاءه، فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر، أقتلنا محمداً؟ قال عمر: اللهم لا،
وإنه ليسمع كلامك الآن، قال: أنت أصدق عندي من ابن قمئة وأبر، لقول ابن قمئة لهم:
إني قد قتلت محمداً[33]
. كان في سؤال أبي سفيان عن رسول الله وأبي بكر وعمر دلالة واضحة على اهتمام
المشركين بهؤلاء دون غيرهم لأنه في علمهم أنهم أهل الإسلام وبهم قام صرحه وأركان
دولته وأعمدة نظامه، ففي موتهم يعتقد المشركون أنه
لا يقوم الإسلام بعدهم، وكان
السكوت عن إجابة أبي سفيان أولا تصغيراً له حتى إذا انتشى وملأه الكبر أخبروه
بحقيقة الأمر وردوا عليه بشجاعة[34]
.


وفي
غزوة بني المصطلق كان للفاروق موقف متميز، ونترك شاهد عيان يحكي لنا         ما شاهده، قال جابر بن عبد الله
الأنصاري: كنا في غزاة فكسع[35]
رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار فقال الأنصاري: يا للأنصار. وقال
المهاجري: يا للمهاجرين. فسمع ذلك رسول الله فقال: دعوها فإنها منتنة، فسمع بذلك

عبد الله ابن أبي فقال: فعلوها:؟ أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز
منها الأذل، فسمع ذلك عمر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله دعني
أضرب عنق هذا المنافق، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال عمر: كلام فيه نقص فقال
ذلك فقال: يا رسول الله: دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه[36]،
وفي رواية قال عمر بن الخطاب: مر به عباد بن بشر فليقتله، فقال له رسول الله صلى
الله عليه وسلم: فكيف ياعمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه؟ لا. ولكن أذن
بالرحيل وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها، فارتحل
الناس[37]
ومن مثل هذه المواقف والتوجيهات النبوية استوعب عمر رضي الله عنه فقه المصالح
والمفاسد، فهذا الفقه يظهر في قولهصلى الله عليه وسلم: فكيف يا عمر إذا تحدث الناس
أن محمداً يقتل أصحابه[38]،
إنها المحافظة التامة على السمعة السياسية، ووحدة الصف الداخلية، والفرق كبير جداً
بين أن يتحدث الناس عن حب أصحاب محمد محمداً، ويؤكدون على ذلك بلسان قائدهم الأكبر
أبي سفيان: ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً[39]،
وبين أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ولا شك أن وراء ذلك محاولات ضخمة ستتم
في محاولة الدخول إلى الصف الداخلي في المدينة من العدو بينما هم يائسون الآن من
قدرتهم على شيء أمام ذلك الحب وتلك التضحيات[40]
وفي غزوة الخندق يروي جابر فيقول: أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق بعد ما غربت
الشمس، فجعل يسُبُّ كفار قريش وقال: يا رسول الله ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس
تغرب، قال النبي صلى الله عليه وسلم:  وأنا
والله ما صليتها، فنزلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بُطحان[41]،
فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها، فصلى العصر بعدما غربت الشمس، ثم بعدها المغرب[42].


3- صلح الحديبية، وسريه إلى هوازن، وغزوة خيبر:


وفي
الحديبية دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر ليبعثه إلى مكة، فيبلغ عنه أشراف
قريش ما جاء به، فقال: يا رسول الله إني أخاف قريشاً على نفسي، وليس بمكة من بني
عديّ بن كعب أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي لها وغلظتي عليها، ولكني أدلُّك على
رجل أعزّ بها مني، عثمان بن عفان، فدعا    
رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف
قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب وأنه إنما جاء زائراً لهذا البيت ومعظماً لحرمته[43]،
وبعد الاتفاق على معاهدة الصلح وقبل تسجيل وثائقها ظهرت بين المسلمين معارضة شديدة
وقوية لهذه الاتفاقية، وخاصة في البندين اللذين يلتزم النبي بموجبهما بردّ ما جاء
من المسلمين لاجئاً، ولا تلتزم قريش برد ما جاءها من المسلمين مرتداً، والبند الذي
يقضي بأن يعود المسلمون من الحديبية إلى المدينة دون أن يدخلوا مكة ذلك العام، وقد
كان أشد الناس معارضة لهذه الاتفاقية وانتقاداً لها، عمر بن الخطاب، وأسيد بن حضير
سيد الأوس، وسعد بن عبادة سيد الخزرج، وقد ذكر المؤرخون أن عمر بن الخطاب أتى رسول
الله معلناً معارضته لهذه الاتفاقية وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألست
برسول الله؟ قال: بلى، قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى، قال: أوليسوا بالمشركين؟
قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال إني رسول الله ولست أعصيه[44]،
وفي رواية: أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني[45]،
قلت أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى، فأخبرتك أنا نأتيه
العام؟ قلت: لا، قال فإنك آتيه ومطوف به قال عمر: فأتيت أبا بكر فقلت له: يا أبا
بكر: أليس برسول الله؟ قال: بلى، قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى، قال: أوليسوا
بالمشركين؟ قال بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فقال أبو بكر ناصحاً الفاروق
بأن يترك الاحتجاج والمعارضة إلزم غرزه فإني أشهد أنه رسول الله، وأن الحق ما أمر
به، ولن نخالف أمر الله ولن يضيعه الله[46]،
وبعد حادثة أبي جندل المؤلمة المؤثرة عاد الصحابة إلى تجديد المعارضة للصلح، وذهبت
مجموعة منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم عمر بن الخطاب لمراجعتة،
وإعلان معارضتهم مجدداً للصلح إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم بما أعطاه الله من
صبر وحكمة وحلم وقوة حجة استطاع أن يقنع المعارضين بوجاهة الصلح، وأنه في صالح
المسلمين وأنه نصر لهم[47]،
وأن الله سيجعل للمستضعفين من أمثال أبي جندل فرجاً ومخرجاً، وقد تحقق ما أخبر
بهصلى الله عليه وسلم، وقد تعلم عمر رضي الله عنه من رسول الله احترام المعارضة
النزيهة ولذلك نراه في خلافته يشجع الصحابة على إبداء الآراء السليمة التي تخدم
المصلحة العامة[48]،
فحرية الرأي مكفولة في المجتمع الإسلامي وأن للفرد في المجتمع المسلم الحرية في
التعبير عن رأيه، ولو كان هذا الرأي نقداً لموقف حاكم من الحكام أو خليفة من
الخلفاء، فمن حق الفرد المسلم أن يبين وجهة نظره في جو من الأمن والأمان دون إرهاب
أو تسلط يخنق حرية الكلمة والفكر، ونفهم من معارضة عمر لرسول الله صلى الله عليه
وسلم أن المعارضة لرئيس الدولة في رأي من الآراء وموقف من المواقف ليست جريمة
تستوجب العقاب، ويغيب صاحبها في غياهب السجون[49].


لم يكن
ذلك الموقف من الفاروق شكّاً أو ريبة فيما آلت إليه الأمور، بل طلباً لكشف ما خفي
عليه، وحثّاً على إذلال الكفار، لما عرف من قوته في نصرة الإسلام[50]،
وبعد ما تبينت له الحكمة قال عن موقفه بالحديبية: ما زلت أتصدق، وأصوم، وأصلي،
وأعتق من الذي صنعت يومئذ، مخافة كلامي الذي تكلمت به، حتى رجوت أن يكون خيراً[51].


وفي
شعبان سنة 7 من الهجرة بعث رسول الله عمر بن الخطاب إلى تربة في ثلاثين رجلاً إلى
عُجزِ[52]
هوازن بتربة وهي بناحية القبلاء[53]،
على أربع مراحل من مكة[54]،
فخرج، وخرج معه دليل من بني هلال[55]،
فكان يسير الليل ويكمن النهار، فأتى الخبر هوازن فهربوا، وجاء عمر محالهم فلم يلق
منهم أحداً فانصرف راجعاً إلى المدينة رضي الله عنه[56]
وفي رواية: قال له الدليل الهلالي: هل لك في جمع آخر تركته من خَشْعَمَ سائرين قد
أجدبت بلادهم؟ فقال عمر: لم يأمرني رسول الله بهم، إنما أمرني أن أعْمَدَ لقتال
هوازن بتُربة[57]،
وهذه السرية تدلنا على ثلاث نتائج عسكرية:


الأولى: أن عمر أصبح مؤهلاً للقيادة إذ لولا ذلك لما ولاه النبي الكريم
صلى الله عليه وسلم قيادة سرية من سرايا المسلمين تتجه إلى منطقة بالغة الخطورة
وإلى قبيلة من أقوى القبائل العربية وأشدها شكيمة.


والثانية: أن عمر الذي كان يكمن نهاراً ويسير ليلاً، مشبع بمبدأ
المباغتة، أهم مبادئ الحرب على الإطلاق، مما جعله يباغت عدوه ويجبره على الفرار،
وبذلك انتصر بقواته القليلة على قوات المشركين الكثيرة.


والثالثة: أن عمر ينفذ أوامر قائدة الأعلى نصاً وروحاً، ولا يحيد عنها،
وهذا هو روح الضبط العسكري وروح الجندية في كل زمان ومكان[58]
.


وفي
غزوة خيبر عندما نزل رسول الله بحضرة أهل خيبر أعطى رسول الله اللواء[59]
عمر بن الخطاب، فنهض معه من نهض من الناس، فلقوا أهل خيبر فانكشف عمر وأصحابه،
فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله لأعطين اللواء غداً رجلاً
يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، فلما كان غداً تصدر[60]
لها أبو بكر، وعمر، فدعا علياً، وهو أرمد[61]
، فتفل في عينيه وأعطاه اللواء، ونهض معه من الناس من نهض فتلقى أهل خيبر
فإذا مرحب يرجز ويقول:










قد علمت خيبر أني مرحب
أطعن أحياناً وحيناً أضرب







شاك السلاح بطل مجرب
إذا الليوث أقبلت تلهب




فاختلف
هو وعلي – رضي الله عنه – فضربه علي على هامته حتى عضى السيف منه بيضتي[62]
رأسه، وسمع أهل المعسكر صوت ضربته، فما تتام آخر الناس مع علي حتى فتح الله لهم
وله.


وعندما
أقبل في خيبر نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: فلان شهيد، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: كلا، إني رأيته في النار في بردة غلَّها، أو عباءة ثم قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم:
يا ابن الخطاب اذهب فناد في الناس: أنه لا يدخل
الجنة إلا المؤمنون قال: فخرجت فناديت: ألا أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون[63].


التنقل السريع