القائمة الرئيسية

الصفحات

مقتل عثمان بن عفان واشـــــــــــتعال الفتنـــــة




نجح الموتورون الحاقدون الكاذبون في إزاحة الوليد بن عقبة عن ولاية الكوفة، وعين عثمان  سعيد بن العاص واليا جديدا على الكوفة، وعندما وصل سعيد إلى ولايته صعد المنبر، وبعدما حمد الله وأثنى عليه قال: والله لقد بعثت إليكم وإني لكاره، ولكني عندما أمرني عثمان، لم أجد بدًّا من التنفيذ، ألا وإن الفتنة قد أطلت رأسها فيكم، والله لأضربن وجهها حتى أقمعها أو تغلبني، وإني رائد نفسي اليوم( ), واطلع سعيد على أحوال الكوفة، وعرف توجهات الناس فيها، وأدرك تعمق الفتن فيها، وضلوع مجموعة من الخوارج والموتورين والحاقدين وأعداء الإسلام في التآمر والكيد والفتنة وسيطرة الرعاع والغوغاء والأعراب على الرأي فيها.( )
وكتب سعيد رسالة إلى أمير المؤمنين عثمان يخبره فيها بالأوضاع المتردية في الكوفة، ومما قال فيها: إن أهل الكوفة قد اضطرب أمرهم, وقد غلب فيها أهل الشرف والسابقة والقِدمة، والغالب على تلك البلاد روادف ردفت, وأعراب لَحَتْ حتى ما ينظر فيها إلى ذي شرف وبلاء.. فرد عليه عثمان  برسالة طلب منه فيها إعادة ترتيب أوضاع أهلها وتصنيفهم على أساس السبق والجهاد، وتقديم أهل العلم والصدق والجهاد على غيرهم، ومما قال له فيها: فضل أهل السابقة والقدمة ممن فتح الله على أيديهم تلك البلاد، واجعل الذين نزلوا البلاد بعد فتحها من الأعراب تبعا لأولئك السابقين المجاهدين إلا أن يكون السابقون تثاقلوا عن الجهاد والحق، وتركوا القيام به، وقام به من بعدهم. واحفظ لكل إنسان منهم منزلته وأعطهم جميعا قسطهم بالحق، فإن المعرفة بالناس يتحقق بها العدل بينهم.( ) وقام سعيد بتنفيذ توجيهات عثمان  وأخبر الخليفة بما فعل، وجمع عثمان أهل الحل والعقد في المدينة، وأبلغهم بأوضاع الكوفة ورسوخ الفتنة فيها، وإجراءات سعيد بن العاص لمواجهتها، فقالوا: أصبت بما فعلت، ولا تسعف أهل الفتنة بشيء ولا تقدمهم على الناس، ولا تطعمهم فيما ليسوا له بأهل، فإنه إذا تولى الأمور من ليس أهلا لها، لم يقم بها بل يفسدها، فقال عثمان لهم: يا أهل المدينة، إن الناس قد تحركوا للفتنة، فاستعدوا لمواجهتها، واستمسكوا بالحق، وسوف أخبركم بأخبارها وأنقلها لكم أولا بأول( ).
أولاً: تأذى أصحاب الأهواء من الإصلاح:
تأذى الرعاع وأجلاف الأعراب من تقديم أصحاب السابقة والجهاد والبلاء والعلم والتقوى في المجالس والرئاسة والاستشارة، وصاروا يعيبون على الولاة تقديم هؤلاء عليهم واستشارتهم دونهم ويعتبرونهم تمييزا, وجفوة وإقصاء لهم، واستغل الحاقدون الموتورون هذا الأمر في نفوسهم، وغرسوا فيهم كره الخليفة والدولة ورفض أعمال الوالي سعيد بن العاص، ونشر الإشاعات ضده بين الناس، ورفض عامة الناس في الكوفة كلام الموتورين الخارجين، فسكت هؤلاء الحاقدون وصاروا يخفون شبهاتهم ولا يظهرونها؛ لرفض
معظم المسلمين لها، ولكنهم كانوا يسرون بها إلى من يؤيدهم من الأعراب أو الغوغاء
أو المعاقبين المغررين.( )
وكان أعداء الإسلام الموتورون من اليهود والنصارى والمجوس يتآمرون على الإسلام والمسلمين، وينشرون الإشاعات الكاذبة ضد الخليفة والولاة، ويستثمرون الأخطاء التي تصدر عن بعضهم في تهييج العامة ضدهم، ويزيدون عليها الكثير من الافتراءات والتزويرات، وهم يهدفون من ذلك إلى نشر الفوضى وتعميق الفرقة بين المسلمين، وذلك لتغذية غيظهم وحقدهم على الإسلام, الذي قضى على أديانهم الباطلة وهدم نظام الحكم الإسلامي، الذي حطم دولهم وقضى على جيوشهم، وجند هؤلاء الأعداء لتحقيق أهدافهم الموتورين من الرعاع والسذج والبلهاء والتف حولهم الحاقدون ممن أدَّبهم أو حدَّهم أو عزَّرهم الخليفة أو أحد ولاته، ونظم هؤلاء الأعداء (جمعية سرية) خبيثة جعلوا أعضاءها هؤلاء الذين استجابوا لهم، وجعلوا لهم أتباعا في المدن الكبيرة والأقاليم العديدة، وكونوا شبكة اتصالات سرية بينهم. وكانت أهم فروع جمعيتهم الخبيثة في: الكوفة، والبصرة، ومصر، ولهم بعض العناصر في المدينة المنورة والشام( ).
ثانيًا: عبد الله بن سبأ اليهودي على رأس العصابة:
أوصى ابن سبأ أتباعه المجرمين في جمعيته السرية الخبيثة، المنتشرين في بلاد المسلمين، فقال لهم: انهضوا في هذا الأمر، فحركوه وابدأوا بالطعن على أمرائكم وولاتكم الذين يعينهم الخليفة، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتستميلوا الناس إليكم، وادعوهم إلى هذا الأمر.( ) وبث عبد الله بن سبأ دعاته في الأمصار، وكاتب أتباعه الذين أفسدهم في الأمصار وضمهم إليه وكاتبوه، وتحرك أتباعه في البلدان بدعوتهم ودعوا مؤيديهم في السر إلى ما هم عليه من الخروج على الولاة والخليفة، والعمل على عزل عثمان عن الخلافة، وكانوا في الظاهر يظهرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ليؤثروا في الناس، ويستميلوهم ويخدعوهم، وصار أتباع ابن سبأ يؤلفون الأكاذيب والافتراءات عن عيوب أمرائهم وولاتهم، وينشرونها في كتب يرسلها بعضهم إلى بعض في الأمصار، وصار أهل كل مصر منهم يكتبون كتبا بهذه الأكاذيب إلى أهل مصر آخر، فيقرأ أهل كل مصر تلك الكتب المزورة على الناس عندهم فيسمع الناس عندهم عن عيوب وأخطاء الوالي في ذلك البلد فيقولون: إنا لفي عافية مما ابتلى به المسلمون في ذلك البلد، ويصدقون ما يسمعون. وبذلك أفسد السبئيون الأرض وأفسدوا المسلمين، ومزقوا كلمتهم، وزعزعوا أخوتهم ووحدتهم، وهيجوا الناس على الولاة والأمراء، ونشروا الافتراءات ضد الخليفة عثمان نفسه،وكانوا يقومون بهذه الجرائم المنظمة والمدروسة بمهارة يريدون غير ما يظهرون، ويسرون غير ما يعلنون، ويهدفون إلى عزل عثمان والقضاء على دولة الإسلام( ).
توجه ابن سبأ إلى الشام ليفسد بعض أهلها ويؤثر فيهم، ولكنه لم ينجح في هدفه الشيطاني، فقد كان له معاوية  بالمرصاد.( ) ودخل البصرة ليجند الأتباع له من المارقين أو الحاقدين أو الرعاع البلهاء، وكان والي البصرة عبد الله بن عامر بن كريز، وكان حازما عادلا صالحا، ولما وصل ابن سبأ البصرة، نزل عند رجل خبيث من أهلها كان لصا فاتكا، هو حكيم بن جبلة( ).
وبلغ عبد الله بن عامر أن رجلا غريبا نازل على حكيم بن جبلة، وكان حكيم بن جبلة لصا، وعندما كانت تعود جيوش الجهاد إلى البصرة، كان حكيم يتخلف عنها ليسعى في أرض فارس فسادا، ويغير على أرض أهل الذمة، ويعتدي على أرض المسلمين، ويأخذ منها ما يشاء، فشكاه أهل الذمة والمسلمون إلى عثمان، فكتب عثمان إلى عبد الله بن عامر، وقال له: احبس حكيم بن جبلة في البصرة، ولا تتركه يخرج منها حتى تأنس منه رشدا، فحبسه ابن عامر في بيته، وكان لا يستطيع أن يخرج من البصرة، وبينما كان اللص ابن جبلة تحت الإقامة الجبرية في بيته، نزل عليه اليهودي عبد الله بن سبأ، واستغل ابن سبأ زعارة ابن جبلة وانحرافه وحقده ولؤمه فجنده لصالحه، وصار ابن جبلة رجل ابن سبأ في البصرة، وصار ابن جبلة يقدم لابن سبأ أمثاله من المنحرفين والموتورين، فيغرس ابن سبأ في نفوسهم أفكاره، ويجندهم بجمعيته السرية. ولما علم ابن عامر بابن سبأ، استدعاه، وقال له: ما أنت؟ قال ابن سبأ: أنا رجل من أهل الكتاب رغب في الإسلام فأسلم، ورغب في جوارك فأقام عندك. قال ابن عامر: ما هذا الكلام الذي يبلغني عنك؟ اخرج عني. أخرجه ابن عامر من البصرة، فغادرها ابن سبأ بعد أن ترك فيها رجالا وأتباعا له، وجعل فيها فرعا لحزبه
السبئي اليهودي.
ذهب ابن سبأ إلى الكوفة فوجد فيها رجالا من المنحرفين جاهزين لاستقباله، فجندهم لجماعته وحزبه، ولما علم به سعيد بن العاص أخرجه من الكوفة، فتوجه إلى مصر، فأقام فيها وعشش فيها وباض، وفرخ فيها وأفسد، واستمال أناسا هناك من الرعاع والبلهاء، ومن الحاقدين والموتورين، ومن العصاة والمذنبين. وكان ابن سبأ يرتب الاتصالات السرية بين مقره في مصر، وبين أتباعه في المدينة والبصرة والكوفة، ويتحرك رجاله بين هذه البلدان.( ) واستمرت جهود ابن سبأ وأعوانه حوالي ست سنوات، حيث بدأوا أعمالهم الشيطانية سنة ثلاثين، ونجحوا في آخر سنة خمس وثلاثين في قتل الخليفة عثمان، واستمر إفسادهم طيلة خلافة علي ، وقرر (السبئيون) أن تكون بداية الفتنة في الكوفة( ).
ثالثـًا: أهل الفتنة يفسدون في مجلس سعيد بن العاص:
في يوم من أيام سنة ثلاث وثلاثين جلس سعيد بن العاص في مجلسه العام وحوله عامة الناس، وكانوا يتحدثون ويتناقشون فيما بينهم، فتسلل هؤلاء الخوارج من السبئيين إلى المجلس، وعملوا على إفساده، وعلى إشعال نار الفتنة.
جرى كلام وحوار في المجلس بين سعيد بن العاص وبين أحد الحضور، وهو (خنيس ابن حُبيش الأسدي) واختلفا على أمر، وكان سبعة من الخوارج، أصحاب الفتنة جالسين: منهم جندب الأزدي، الذي قتل ابنه السارق بسبب تورطه في قضية قتل، ومنهم الأشتر النخعي، وابن الكواء، وصعصعة ابن صوحان، فاستغل أصحاب الفتنة المناسبة، وقاموا بضرب خنيس الأسدي في المجلس، ولما قام أبوه يساعده وينقذه ضربوه، وحاول سعيد منعهم من الضرب فلم يمتنعوا، وأغمى على الرجل وابنه من شدة الضرب، وجاء بنو أسد للأخذ بثأر أبنائهم، وكادت الحرب تقع بين الفريقين، ولكنَّ سعيدا تمكن من إصلاح الأمر( )، ولما علم عثمان بالحادثة طلب من سعيد بن العاص أن يعالج الموضوع بحكمة، وأن يضيق على الفتنة ما استطاع.
ذهب الخوارج المفتونون إلى بيوتهم وصاروا ينشرون الإشاعات ويذيعون الافتراءات والأكاذيب ضد سعيد وضد عثمان، وضد أهل الكوفة ووجوهها، فاستاء أهل الكوفة منهم وطلبوا من سعيد أن يعاقبهم، فقال لهم سعيد: إن عثمان قد نهاني عن ذلك، فإذا أردتم ذلك فأخبروه، وكتب أشراف أهل الكوفة وصلحاؤهم إلى عثمان بشأن هؤلاء النفر، وطلبوا منه إخراجهم من الكوفة ونفيهم عنها، فهم مفسدون مخربون فيها، فأمر عثمان واليه سعيد بن العاص بإخراجهم من الكوفة، وكانوا بضعة عشر رجلا، وأرسلهم سعيد إلى معاوية في الشام بأمر عثمان، وكتب عثمان إلى معاوية بشأن هؤلاء فقال له: إن أهل الكوفة قد أخرجوا إليك نفرا خلقوا للفتنة، فَرُعْهم وأخفهم وأدبهم وأقم عليهم، فإن آنست منهم رشدا فاقبل منهم.( ) ومن الذين تم نفيهم إلى الشام: الأشتر النخعي، وجندب الأزدي، وصعصعة بن صوحان، وكميل بن زياد، وعمير بن ضابئ، وابن الكواء( ).
رابعًا: أهل الفتنة منفيون عند معاوية:
لما قدموا على معاوية رحب بهم وأنزلهم كنيسة تسمى مريم، وأجرى عليهم بأمر عثمان ما كان يجري عليهم بالعراق، وجعل لا يزال يتغدى ويتعشى معهم، فقال لهم يوما: إنكم قوم من العرب لكم أسنان وألسنة, وقد أدركتم بالإسلام شرفا وغلبتم الأمم، وحويتم مراتبهم ومواريثهم، وقد بلغني أنكم نقمتم قريشا، وإن قريشا لو لم تكن لعدتم أذلة كما كنتم( ).
كان عثمان  يدرك أن معاوية للمعضلة، فله من فصاحته وبلاغته, وله من حلمه وصبره، وله من ذكائه ودهائه ما يواجه به الفتن، ومن أجل ذلك ما إن تقع المعضلة حتى يرسلها لابن أبي سفيان كي يحلها، وفعلا بذل معاوية  ما بوسعه من أجل إقناع هؤلاء النفر؛ أكرمهم أولا، وخالطهم وجالسهم, وعرف سرائرهم من خلال هذه المجالس قبل أن يحكم عليهم بما نقلوا عنهم، وبعد أن أزال الوحشة عنهم وأزال الكلفة بينه وبينهم، لاحظ أن النعرة القبلية هي التي تحركهم، وأن شهوة الحكم والسلطة هي التي تثيرهم، فكان لا بد من أن يلج عليهم من زاويتين اثنتين:
الأولى: أثر الإسلام في عزة العرب.
الثانية: دور قريش في نشر الإسلام وتحمل أعبائه.
فإن كان للإسلام أثر في تكوينهم فلا بد أن يرعووا لهذا الحديث، بعد هذا وضع أمامهم صورة لوضع العرب، وقد انقلبوا بالإسلام أمة واحدة تخضع لإمام واحد، وودعوا حياة الفوضى وسفك الدماء والقبلية المنتنة( ).
ويتابع معاوية حديثه معهم فيقول: إن أئمتكم لكم إلى اليوم جُنَّة( ) فلا تشذوا عن جنتكم، وإن أئمتكم اليوم يصبرون لكم على الجور، ويحتملون منكم المؤونة، والله لتنتهين أو ليبتلينكم الله بمن يسومكم، ثم لا يحمدكم على الصبر, ثم تكونون شركاءهم فيما جررتم على الرعية في حياتكم وبعد موتكم، فقال رجل من القوم: أما ما ذكرت من قريش فإنها لم تكن أكثر العرب، ولا أمنعها في الجاهلية فتخوفنا، وأما ما ذكرت من الجُنة، فإن الجنة إذا اخترقت خلص إلينا، فقال معاوية: عرفتكم الآن، علمت أن الذي أغراكم على هذا قلة العقول، وأنت خطيب القوم ولا أرى لك عقلا، أعظم عليك أمر الإسلام، وأذكِّرك به، وتذكرني الجاهلية؟ وقد وعظتك وتزعم لما يُجِنك أنه يخترق، ولا ينسب ما يخترق إلى الجنة، أخزى الله أقواما أعظموا أمركم ورفعوا إلى خليفتكم( ).
وعرف معاوية أن الإشارة العابرة لن تقنعهم، لا بد من شرح مسهب لواقع قريش أولا فقال: افقهوا ولا أظنكم تفقهون؛ إن قريش لم تعز في جاهلية ولا في إسلام إلا بالله عز وجل، لم تكن أكثر العرب ولا أشدهم، ولكنهم كانوا أكرمهم أحسابا، وأمحضهم أنسابا، وأعظمهم أخطارا، وأكملهم مروءة، ولم يمتنعوا في الجاهلية والناس يأكل بعضهم بعضا إلا بالله الذي لا يُسْتذل من أعز، ولا يوضع من رفع، هل تعرفون عربا أو عجما أو سودا أو حمرا إلا قد أصابه الدهر في بلده وحرمته بدولة, إلا ما كان من قريش؛ فإنه لم يردهم أحد بكيد إلا جعل الله خده الأسفل، حتى أراد الله أن ينتقذ من أكرم واتبع دينه من هوان الدنيا وسوء مرد الآخرة فارتضى لذلك خير خلقه، ثم ارتضى له أصحابا فكان خيارهم قريشا, ثم بنى هذا الملك عليهم، وجعل هذه الخلافة فيهم، ولا يصلح ذلك إلا عليهم، فكان الله يحوطهم وهم على دينه، وقد حاطهم الله في الجاهلية من الملوك الذين كانوا يدينونكم؟ أفٍّ لك ولأصحابك، ولو أن متكلما غيرك تكلم، ولكنك ابتدأت، فأما أنت يا صعصعة فإن قريتك شر قرى عربية، أنتنها نبتًا، وأعمقها واديًا، واعرفها بالشر، وألأمها جيرانا، لم يسكنها شريف قط ولا وضيع إلا سُبَّ بها، وكانت عليه هجنة، ثم كانوا أقبح العرب ألقابا وألأمهم أصهارا، نزَّاع( ) الأمم، وأنتم جيران الخط وفعلة فارس، حتى أصابتكم دعوة النبي × ونكبتكم دعوته, وأنت نزيع شطير( ) في عمان لم تسكن البحرين فتشركهم في دعوة النبي ×, فأنت شر قومك، حتى إذا أبرزك الإسلام وخلطك بالناس وحملك على الأمم التي كانت عليك، أقبلت تبغي دين الله عوجا، وتنزع إلى اللآمة والذلة ولا يضع ذلك قريشا، ولن يضرهم, ولن يمنعهم من تأدية ما عليهم، إن الشيطان عنكم غير غافل، قد عرفكم بالشر من بين أمتكم، فأغرى بكم الناس، وهو صارعكم، لقد علم أنه لا يستطيع أن يرد بكم قضاء الله، ولا أمرا أراده الله، ولا تدركون بالشر أمرا إلا فتح الله عليكم شرا منه وأخزى، ثم قام وتركهم فتذامروا، فتقاصرت إليهم أنفسهم( ).
وبذلك بذل معاوية كل طاقاته الفكرية والثقافية والسياسية لإقناعهم:
* عرض لهم أولا أمر قريش في الجاهلية والإسلام.
* تناول قبائل هؤلاء النفر ووضعها في الجاهلية؛ حيث كانت تعاني سوء المناخ ونتن المنبت من الناحية الطبيعية، ثم الذلة والتبعية لفارس من الناحية السياسية، إلى أن أكرمهم الله بالإسلام فعزت بعد ذلٍّ، وارتفعت بعد هوان.
* تناول معاوية صعصعة بن صوحان خطيب القوم، وكيف تلكأ عن تلبية نداء الرسالة، وقد دخل قومه بها، ثم عاد وانضم إلى الإسلام، ورفعه الإسلام ثانية بعد انحدار.
* كشف معاوية  عن مخططات صعصعة وأصحابه، وكيف يبغون الفتنة، ويبغون دين الله عوجا.
وإن الشيطان هو وكر هذه الفتنة, ومحرك هذا الشر، وبذلك ربط تاريخ الأمة بالله ثم بالإسلام والعقيدة، ثم كشف عن زيف هؤلاء النفر، وفضحهم عن آخرهم، وأبان عن مخططاتهم وصلتها بدعوى الجاهلية( ).
* جلسة أخرى:
ثم أتاهم القابلة فتحدث عندهم طويلا ثم قال: أيها القوم، ردوا عليَّ خيرا، أو اسكتوا وتفكروا، وانظروا فيما ينفعكم, وينفع أهليكم، وينفع عشائركم، وينفع جماعة المسلمين، فاطلبوه تعيشوا ونعش بكم.
قال صعصعة: لست بأهل ذلك، ولا كرامة لك أن تطاع في معصية الله. قال معاوية: أو ليس ما ابتدأتكم به أن أمرتكم بتقوى الله، وطاعته, وطاعة نبيه ×، وأن تعتصموا بحبله جميعا ولا تفرقوا؟! قالوا: بل أمرت بالفرقة وخلاف ما جاء به النبي ×، قال: إني آمركم الآن إن كنت فعلت فأتوب إلى الله وآمركم بتقواه وطاعته وطاعة نبيه ×، ولزوم الجماعة وكراهة الفرقة، وأن توقروا أئمتكم، وتدلوهم على كل حسن ما قدرتم، وتعظوهم في لين ولطف في شيء إن كان منهم. قال صعصعة: فإنا نأمرك أن تعتزل عملك، فإن من المسلمين من هو أحق به منك. قال معاوية: من هو؟ قالوا: من كان أبوه أحسن قدما من أبيك، وهو بنفسه أحسن قدما منك في الإسلام. قال معاوية: والله إن لي في الإسلام قدما، ولغيري كان أحسن قدما مني، ولكنه ليس في زماني أحد أقوى على ما أنا فيه مني، ولقد رأى ذلك عمر ابن الخطاب، فلو كان غيري أقوى مني لم يكن لي عند عمر هوادة ولا لغيري، ولم أحدث من الحدث ما ينبغي لي أن أعتزل عملي، ولو رأى ذلك أمير المؤمنين وجماعة المسلمين لكتب بخط يده فاعتزلت عمله، ولو قضى الله أن يفعل ذلك لرجوت أن لا يعزم له على ذلك إلا هو خير. فمهلا فإن في ذلك وأشباهه ما يتمنى الشيطان ويأمر، ولعمري لو كانت الأمور تقضى على رأيكم وأمانيكم ما استقامت الأمور لأهل الإسلام يوما ولا ليلة، ولكن الله يقضيها ويدبرها وهو بالغ أمره، فعاودوا الخير وقولوه. قالوا: لست لذلك أهلا، قال معاوية: أما والله إن لله سطوات ونقمات، وإني لخائف عليكم أن تتابعوا في مطاوعة الشيطان حتى تُحلَّكم مطاوعة الشيطان ومعصية الرحمن دار الهوان من نقم الله في عاجل الأمر والخزي الدائم في الآجل، فوثبوا عليه فأخذوا بلحيته ورأسه فقال: مه، إن هذه ليست بأرض الكوفة، والله لو رأى أهل الشام ما صنعتم بي وأنا إمامهم ما ملكت أن أنهاهم عنكم حتى يقتلوكم، فلعمري إن صنيعكم ليشبه بعضه بعضا، ثم قام من عندهم فقال: والله لا أدخل عليكم مدخلا ما بقيت.( )
هذه المحاولة الأخيرة التي بذل فيها معاوية أمير الشام كل جهده، واستعمل حلمه وثقافته وأعصابه كي يثنيهم عن الفتنة، إنه يدعوهم إلى تقوى الله وطاعته، والاستمساك بالجماعة والابتعاد عن الفرقة، وإذا بهم يرفعون عقيرتهم قائلين: ليس لك أن تطاع في معصية الله.( ) وبحلمه الكبير، وصدره الواسع عاد فذكرهم بأنه لا يأمرهم إلا بطاعة الله، وعلى حد زعمهم فهو يتوب من المعصية إن وقعت، ثم يعود لدعوتهم إلى الطاعة والجماعة والابتعاد عن تفريق كلمة الأمة، ولو كان الوعظ يجدي معهم لأمكن أن تتأثر قلوبهم لهذه المعاملة، وهذا اللطف وهذا الحلم، لكنهم اعتبروا ذلك ضعفا وتهاونا منه؛ خاصة وهو يوجههم إلى أن يستعملوا الأسلوب الهادئ في العظة واللين في النصح، فوجدوا المجال رحبا أن يكشفوا عن مكنون قلوبهم. فقالوا: فإنا نأمرك أن تعتزل عملك؛ فإن بالمسلمين من هو أحق به منك، وانتبه معاوية انتباها مفاجئا إلى ما يكنُّون، فأحب أن يتعرف على جانب غامض عليه، لعل في هذا التعرف ما يوصله إلى من يحركهم، ويبث في ذهنهم الأراجيف المغرضة، ولكنهم أخفوا ما يكنون, واكتفوا بالإشارة إلى أنهم يحبون أن يدع العمل لمن هو أفضل منه، ولِمَنْ أَبُوه أفضل من أبيه، ثم تحلم عليهم أكثر فأكثر، رغم الأسلوب الفج الذي سلكوه معه، وهم يأمرونه بأن يعتزل العمل. وهنا نجد لمعاوية جوابا مستفيضا عن وجهة نظره في الحكم والإمارة والقيادة، وقد لخص معاوية إجابته في ست نقاط أساسية ومهمة:
1- هي أن له قدما وسابقة في الإسلام، فهو حامي ثغر الشام منذ وفاة أخيه يزيد بن أبي سفيان رضي الله عنهما.
2- إن هناك في المسلمين من هو أفضل منه وأكرم، وأحسن سابقة وأكثر بلاء، وهو يرى أنه أقوى من يحمي هذا الثغر الإسلامي العظيم (الشام)، فمنذ أن تولاه تمكن من ضبطه وسياسته، وفهم نفسيات أهله حتى أحبوه.
3- إن الميزان الحساس والمعيار الدقيق الذي يقيم الولاة هو عمر بن الخطاب  الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، فلو وجد في معاوية شططا أو انحرافا أو ضعفا لعزله، ولما أبقى عليه يوما واحدا، فقد عمل له طيلة خلافته، كما ولاه من قبل رسوله الله × على بعض عمله، واستخدمه كاتبا بين يديه، وولاه أبو بكر الصديق من بعده ولم يطعن في كفاءته أحد.
4- إن اعتزال العمل يجب أن يستند لأسباب موجبة للاعتزال، فما الحجة التي يقدمها دعاة الفتنة ليتم الاعتزال على أساسها؟
5- إن الذي يقرر العزل عن العمل أو البقاء في الإمارة ليس هؤلاء الأدعياء، إن ذلك من حق أمير المؤمنين عثمان ، وهو الذي له الحق في تعيين الولاة وعزلهم.
6- إن أمير المؤمنين عثمان يوم يقرر عزل معاوية، فهو واثق أن أمره خير كله، ولا غضاضة في ذلك؛ فهو أمير مأمور وهو أمر خليفة المسلمين( ).
كان ختام الجلسة مؤسفا أشد الأسف, مؤلما أشد الألم، لقد حذرهم نقمة الله وغضبه، وحذرهم مهاوي الشيطان ومنزلقاته، وحذرهم فرقة الكلمة ومعصية الإمام، وحذرهم الانقياد إلى أهوائهم وغرورهم، فماذا كان منهم مقابل ذلك؟ وثبوا عليه وأخذوا برأسه ولحيته، وعندئذ زجرهم وقمعهم، ووجه لهم كلاما قاسيا مبطنا بالتهديد، وعرف أن هؤلاء يستحيل أن ينصاعوا للحق، فلا بد من إبلاغ أمرهم لأمير المؤمنين عثمان ، وكشف هوياتهم وخطرهم ليرى فيهم أمير المؤمنين رأيا آخر( ).
كتاب معاوية إلى عثمان -رضي الله عنهما- بشأن أهل الفتنة من الكوفة:
كتب معاوية إلى عثمان -رضي الله عنهما- قائلا: بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله عثمان أمير المؤمنين من معاوية بن أبي سفيان، أما بعد: يا أمير المؤمنين، فإنك بعثت إليَّ أقواما يتكلمون بألسنة الشياطين، وما يملون عليهم، ويأتون الناس - زعموا- من قبل القرآن فيشبهون على الناس، وليس كل الناس يعلم ما يريدون، وإنما يريدون فرقة، ويقربون فتنة، قد أثقلهم الإسلام وأضجرهم، وتمكنت رقى الشيطان من قلوبهم، فقد أفسدوا كثيرا من الناس ممن كانوا بين ظهرانيهم من أهل الكوفة، ولست آمن إن أقاموا وسط أهل الشام
أن يغروهم بسحرهم وفجورهم, فارددهم إلى مصرهم، فلتكن دارهم في مصرهم الذي
نجم فيه نفاقهم( ).
خامسًا: رجوع أهل الفتنة إلى الكوفة ثم نفيهم إلى الجزيرة:
كتب عثمان إلى سعيد بن العاص، فردهم إليه، فلم يكونوا إلا أطلق ألسنة منهم حين رجعوا، وكتب سعيد إلى عثمان يضج منهم، فكتب عثمان إلى سعيد أن سيِّرهم إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد -وكان أميرا على حمص- فلما وصلوا إلى عبد الرحمن ابن خالد بن الوليد استدعاهم، وكلمهم كلاما شديدا، وكان مما قاله لهم: يا آلة الشيطان، لا مرحبا بكم ولا أهلا، لقد رجع الشيطان محسورا خائبا، وأنتم ما زلتم نشيطين في الباطل!! خسَّر الله عبد الرحمن إن لم يؤدبكم ويخزكم، يا معشر من لا أدري من أنتم: أعرب أم عجم، لن تقولوا لي كما كنتم تقولون لسعيد ومعاوية، أنا ابن خالد بن الوليد، أنا ابن من قد عجمته العاجمات، أنا ابن فاقئ الردة، والله لأذلنكم. وأقامهم عبد الرحمن بن خالد عنده شهرا كاملا، وعاملهم بمنتهى الحزم والشدة، ولم يلن معهم كما لان سعيد ومعاوية، وكان إذا مشى مشوا معه، وإذا ركب ركبوا معه, وإذا غزا غزوا معه، وكان لا يدع مناسبة إلا ويذلهم فيها، وكان إذا قابل زعيمهم (صعصة بن صوحان) يقول له: يا ابن الخطيئة، هل تعلم أن من لم يصلحه الخير أصلحه الشر، وأن من لم يصلحه اللين أصلحته الشدة، وكان يقول لهم: لماذا لا تردون عليَّ كما كنتم تردون على سعيد في الكوفة، وعلى معاوية بالشام؟ لماذا لا تخاطبوني كما كنتم تخاطبونهما؟
ونفع معهم أسلوب عبد الرحمن بن خالد، وأخرسهم حزمه وشدته وقسوته, وأظهروا له التوبة والندم، وقالوا له: نتوب إلى الله ونستغفره، أقلنا أقالك الله، وسامحنا سامحك الله. وبقى القوم في الجزيرة عند عبد الرحمن بن خالد, وأرسل عبد الرحمن أحد زعمائهم -وهو الأشتر النخعي- إلى عثمان ليخبره بتوبتهم وصلاحهم، وتراجعهم عما كانوا عليه من الفتنة، فقال عثمان للأشتر: احلل أنت ومن معك حيث شئتم فقد عفوت عنكم. قال الأشتر: نريد أن نبقى عند عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وذكر له من فضل عبد الرحمن وحزمه، فأقاما عند عبد الرحمن في الجزيرة مدة أظهروا فيها التوبة والاستقامة والصلاح( )، وسكت أصحاب الفتنة في الكوفة إلى حين، وكان هذا في شهور سنة ثلاث وثلاثين، بعدما تم نفي رؤوس الفتنة إلى معاوية في الشام، ثم عبد الرحمن بن خالد، فرأى أصحاب الفتنة في الكوفة أن المصلحة تقتضي أن يسكنوا إلى حين( ).
1- أهل الفتنة بالبصرة يفترون على أشج عبد القيس:
أما أهل الفتنة بالبصرة بزعامة حكيم بن جبلة فقد كانوا ضد أهل الفضل فيها, وتآمروا وكذبوا عليهم، وكان من أفضل وأتقى أهل البصرة (أشج عبد القيس) واسمه عامر بن عبد القيس، وكان زعيما لقومه، وقد وفد على رسول الله × وتعلم منه، ومدحه رسول الله بقوله: «إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة».( ) وكان عامر بن عبد القيس من قادة الجهاد في القادسية وغيرها، وكان مقيما في البصرة، وكان على قسط كبير من الصلاح والتقوى، فكذب الخارجون عليه، واتهموه بالباطل، فسيَّره عثمان إلى معاوية بالشام، ولما كلمه معاوية وعامله، وعرف براءته وصدقه، وكذب الخوارج وافتراءهم
عليه، وكان الذي تولى الكذب على عامر بن عبد القيس هو (حمران بن أبان) وهو
رجل عاص بدون دين؛ حيث تزوج امرأة في أثناء عدتها، ولما علم عثمان بذلك فرق بينهما، وضربه ونكل به لمعصيته، ونفاه إلى البصرة، وهناك التقى مع زعيم السبئيين فيها؛ اللص حكيم بن جبلة( ).
2- ابن سبأ يحدد سنة أربع وثلاثين للتحرك:
وفي سنة أربع وثلاثين - السنة الحادية عشرة من خلافة عثمان - أحكم عبد الله بن سبأ اليهودي خطته، ورسم مؤامراته, ورتب مع جماعته السبئيين الخروج على الخليفة وولاته، فقد اتصل ابن سبأ اليهودي من وكر مؤامراته في مصر بالشياطين من حزبه في البصرة والكوفة والمدينة، واتفق معهم على تفاصيل الخروج، وكاتبهم وكاتبوه، وراسلهم وراسلوه، وكان ممن كاتبهم وراسلهم، السبئيون في الكوفة، وقد كان بضعة عشر رجلا منهم منفيين في الشام، ثم في الجزيرة عند عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وبعد نفي أولئك الخارجين كان زعيم السبئيين الحاقدين في الكوفة يزيد بن قيس( )، وقد خلت الكوفة في سنة أربع وثلاثين من وجوهها وأشرافها، لأنهم توجهوا للجهاد في سبيل الله، ولم يبق إلا الرعاع والغوغاء، الذي أثر فيهم السبئيون والمنحرفون وشحنوهم بأفكارهم الخبيثة، وهيَّجوهم ضد والي عثمان على الكوفة سعيد بن العاص( ).
3- أوضاع أهل الكوفة عند تحرك أهل الفتنة:
قال الطبري عن أوضاع الكوفة سنة أربع وثلاثين: وفد سعيد بن العاص إلى عثمان في سنة إحدى عشرة من إمارة عثمان، وقد بعث سعيد قبل خروج الأشعث بن قيس إلى أذربيجان، وسعيد بن قيس إلى الري، والنسير العجلي إلى همذان، والسائب بن الأقرع إلى أصبهان، ومالك بن حبيب إلى ماه، وحكيم بن سلامة إلى الموصل، وجرير بن عبد الله إلى قرقيسيا، وسلمان بن ربيعة إلى الباب، وعتيبة بن النهاس إلى حلوان، وجعل على الحرب القعقاع بن عمرو التميمي، وكان نائبه بعد خروجه عمرو بن حريث، وبذلك خلت الكوفة من الوجوه والرؤساء، ولم يبق فيها إلا منزوع أو مفتون.( ) وفي هذا الجو خرج زعيم السبئيين في الكوفة (يزيد بن قيس) بعد اتفاق مع شيطانه ابن سبأ في مصر، وخرج معه أهل الفتنة الذين انضموا إلى جمعية ابن سبأ السرية، والغوغاء الذين تأثروا بها( ).
4- القعقاع بن عمرو التميمي يقضي على التحرك الأول:
خرج يزيد بن قيس في الكوفة، وهو يريد خلع عثمان، فدخل المسجد وجلس فيه, وتجمع عليه في المسجد السبئيون, الذين كان ابن السوداء يكاتبهم من مصر، ولما تجمع الخارجون في المسجد، علم بأمرهم القعقاع بن عمرو أمير الحرب، فألقى القبض عليهم، وأخذ زعيمهم يزيد بن قيس معه، ولما رأى يزيد شدة القعقاع ويقظته وبصيرته لم يجاهره بهدفهم وخطتهم في الخروج على الخليفة عثمان وخلعه، وأظهر له أن كل ما يريده هو وجماعته عزل الوالي سعيد بن العاص، والمطالبة بوال آخر مكانه، فاستجيب لطلبهم, ولذلك أطلق القعقاع سراح الجماعة لما سمع كلام يزيد، ثم قال ليزيد: لا تجلس لهذا الهدف في المسجد ولا يجتمع عليك أحد واجلس في بيتك، واطلب ما تريد من الخليفة وسيحقق
لك ذلك( ).
5- يزيد بن قيس يكاتب أهل الفتنة عند عبد الرحمن بن خالد:
جلس يزيد بن قيس في بيته، واضطر إلى تعديل خطته في الخروج والفتنة، واستأجر هذا السبئي (يزيد بن قيس) رجلا وأعطاه دراهم وبغلا، وأمره أن يذهب بسرعة وكتمان إلى السبئيين من أهل الكوفة الذين نفاهم عثمان بن عفان إلى الشام, ثم إلى الجزيرة، وهم مقيمون عند عبد الرحمن بن خالد بن الوليد هناك، وقد أظهروا له التوبة والندم، وقال يزيد لإخوانه الشياطين في كتابه: إذا وصلكم كتابي فلا تضعوه من أيديكم حتى تأتوا إليَّ، فقد راسلنا إخواننا في مصر -وهم السبئيون هناك- واتفقنا معهم على الخروج. ولما قرأ الأشتر كتاب يزيد خرج فورا للكوفة، ولحق به إخوانه الخارجون، وفقدهم عبد الرحمن بن خالد فلم يجدهم فأرسل جماعة في طلبهم فلم يدركوهم، واتصل يزيد بن قيس بجماعته مرة ثانية، واتصل جماعته بالرعاع والغوغاء في الكوفة، وتجمعوا في المسجد، ودخل عليهم الأشتر النخعي في المسجد وعمل على إثارتهم وتهييجهم ودفعهم للثورة والخروج، وكان مما قال لهم: لقد جئتكم من عند الخليفة عثمان، وتركت واليكم سعيد بن العاص عنده، وقد اتفق عثمان وسعيد على إنقاص عطائكم، وخفض أموالكم من مئتي درهم إلى مئة درهم. وقد كذب الأشتر فيما قال، ولم يتحدث عثمان وسعيد بذلك، ولكنه كيد السبئيين في نشر الأكاذيب والافتراءات لتهييج العامة، واستخف الأشتر بكلامه الناس في المسجد، وأثر في الرعاع والغوغاء وهيجهم، وكانت ضجة كبيرة في المسجد، وصار يكلمه عقلاء المسلمين من وجوههم وأشرافهم وصالحيهم وأتقيائهم؛ كأبي موسى الأشعري، وعبد الله بن مسعود، والقعقاع بن عمرو، فلم يسمع لهم، ولم يستجب لهم.( ) وصاح يزيد بن قيس في الغوغاء والرعاع داخل المسجد وخارجه، وقال: إني خارج إلى طرق المدينة لأمنع سعيد بن العاص من دخول الكوفة، ومن شاء أن يخرج معي لمنع سعيد من الدخول والمطالبة بوال مكانه فليفعل، فاستجاب لندائه السبئيون والرعاع، وخرج معه حوالي ألف منهم( ).
6- القعقاع بن عمرو يرى قتل قادة أهل الفتنة:
ولما خرج السبئيون والغوغاء طلبا للفتنة والتمرد وإحداث القلاقل، بقى في المسجد وجوه المسلمين وأشرافهم وحلماؤهم، فصعد المنبر نائب الوالي عمرو بن حُريث وطالب المسلمين بالأخوة والوحدة ونهاهم عن التفرق والاختلاف والفتنة والخروج، ودعاهم إلى عدم الاستجابة للخارجين والمتمردين( )، فقال القعقاع بن عمرو: أترد السيل عن عبابه، فاردد الفرات عن أدراجه، هيهات، لا والله لا تُسَكِّن الغوغاء إلا المشرفية( )، ويوشك أن تُنْتَضَى ثم يعجِّون عجيج العتدان( )، ويتمنون ما هم فيه فلا يرده عليهم أبدا، فاصبر، فقال: أصبر, وتحول إلى منزله.( )
7- أهل الفتنة يمنعون سعيد بن العاص من دخول الكوفة:
سار يزيد بن قيس ومعه الأشتر النخعي بالألف من الخارجين إلى مكان على طريق المدينة يسمى (الجَرَعة)، وبينما كانوا معسكرين في الجرعة، طلع عليهم سعيد بن العاص عائدا من عند عثمان، فقالوا له: عُد من حيث أتيت ولا حاجة لنا بك، ونحن نمنعك من دخول الكوفة، وأخبر عثمان أننا لا نريد واليا علينا، ونريد من عثمان أن يجعل أبا موسى الأشعري واليا مكانك، قال لهم سعيد: لماذا خرجتم ألفا لتقولوا لي هذا الكلام؟ كان يكفيكم أن تبعثوا رجلا إلى أمير المؤمنين بطلبكم، وأن توقفوا لي رجلا في الطريق ليخبرني بذلك، وهل يخرج ألف رجل لهم عقول لمواجهة رجل واحد( )؟
رأى سعيد بن العاص أن من الحكمة عدم مواجهتهم، وعدم تأجيج نار الفتنة، بل محاولة إخمادها، أو تأجيل اشتعالها على الأقل، وهذا رأي أبي موسى الأشعري، وعمرو بن حريث, والقعقاع بن عمرو في الكوفة.( ) وعاد سعيد بن العاص إلى عثمان وأخبره خبر القوم الخوارج، قال له عثمان: ماذا يريدون؟ هل خلعوا يدا من طاعة؟ وهل خرجوا على الخليفة وأعلنوا عدم طاعتهم له؟ قال له سعيد: لا لقد أظهروا أنهم لا يريدونني واليا عليهم، ويريدون واليا آخر مكاني، قال له عثمان: من يريدون واليا؟ قال سعيد بن العاص: يريدون أبا موسى الأشعري، قال عثمان: قد عينا وأثبتنا أبا موسى واليا عليهم، والله لن نجعل لأحد عذرا، ولن نترك لأحد حجة، ولنصبرن عليهم كما هو مطلوب منا، حتى نعرف حقيقة ما يريدون. وكتب عثمان إلى أبي موسى بتعيينه واليا على الكوفة( ).
وقبل وصول كتاب عثمان بتعيين أبي موسى واليا كان في مسجد الكوفة بعض أصحاب رسول الله ×، وقد حاولوا ضبط الأمور وتهدئة العامة، ولكنهم لم يتمكنوا من ذلك؛ لأن السبئيين والحاقدين سيطروا على الرعاع والغوغاء وهيجوهم، فلم يعودوا يسمعون صوت عقل أو منطق. وكان في مسجد الكوفة وقت التمرد والفتنة اثنان من أصحاب رسول الله × هما: حذيفة بن اليمان، وأبو مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري، وكان أبو مسعود غاضبا لتمرد وثورة الرعاع وخروجهم إلى الجرعة، وعزلهم الوالي سعيد، وعصيانهم له، وهي أول مرة تحصل، بينما كان حذيفة بعيد النظر، يتعامل مع الحدث بموضوعية وتفكير.( ) قال أبو مسعود لحذيفة: لن يعودوا من الجرعة سالمين، وسيرسل الخليفة جيشا لتأديبهم، وستسفك فيها دماء كثيرة، فرد عليه حذيفة قائلا: والله سيعودون إلى الكوفة، ولن يكون هناك اشتباك أو حرب ولن تسفك هناك دماء، وما أعلم من هذه الفتن شيئا، إلا وقد علمته من رسول الله × وهو حي؛ حيث أخبرنا عن هذه الفتن التي نراها اليوم قبل وفاته، ولقد أخبرنا رسول الله × أن الرجل يصبح على الإسلام ثم يمسي وليس معه من الإسلام شيء، ثم يقاتل المسلمين، فيرتد وينكص قلبه ويقتله الله غدا، وسيكون هذا فيما بعد.( ) لقد كان حذيفة بن اليمان  متخصصا في علم الفتن، وتعامل مع فتن السبئيين في الكوفة وغيرها وفق ما سمعه وعلمه من رسول الله ×، واستحضر ما حفظه من تلك الأحاديث, ففهم حقيقة ما يجري حوله، ولم يستبعده ولم يستغربه وحاول الإصلاح ما أمكنه( ).
8- أبو موسى الأشعري يهدئ الأمور وينهى عن العصيان:
قام أبو موسى الأشعري  بتهدئة الأمور، ونهى الناس عن العصيان، وقال لهم: أيها الناس، لا تخرجوا في مثل هذه المخالفة، ولا تعودوا لمثل هذا العصيان، الزموا جماعتكم والطاعة، وإياكم والعجلة، اصبروا فكأنكم بأمير.( ) فقالوا: فصلِّ بنا، قال: لا، إلا على السمع والطاعة لعثمان بن عفان، قالوا: على السمع والطاعة لعثمان( ).
وما كانوا صادقين في ذلك، لكنهم كانوا يخفون أهدافهم الحقيقية عن الآخرين، وكان أبو موسى يصلي بالناس إلى أن جاءه كتاب عثمان بتعيينه واليا على الكوفة، ولما هدأت الأمور في الكوفة إلى حين - في سنة أربع وثلاثين - عاد حذيفة بن اليمان إلى أذربيجان والباب يقود جيوش الجهاد هناك، وعاد العمال والولاة إلى أعمالهم في مناطق فارس( ).
9- كتاب عثمان إلى الخارجين في الكوفة:
كتب عثمان بن عفان إلى الخارجين من أهل الكوفة كتابا يبين فيه الحكمة من استجابته لطلبهم في عزل سعيد وتعيين أبي موسى بدله، وهي رسالة ذات دلالات هامة، وتبين طريقة عثمان في مواجهة هذه الفتن، ومحاولته تأجيل اشتعالها ما استطاع، مع علمه اليقيني أنها قادمة، وأنه عاجز عن مواجهتها، فهذا ما علمه من رسول الله ×، قال لهم عثمان في رسالته: أما بعد، فقد أمَّرت عليكم من اخترتم، وأعفيتكم من سعيد، والله لأفرشن لكم عرضي، ولأبذلن لكم صبري، ولأستصلحنكم بجهدي، واسألوني كل ما أحببتم مما لا يعصى الله فيه، فسأعطيه لكم، ولا شيئا كرهتموه لا يعصى الله فيه إلا استعفيتم منه، أنزل فيه عند ما أحببتم حتى لا يكون لكم عليَّ حجة، وكتب بمثل ذلك في الأمصار.( ) رضي الله عن أمير المؤمنين عثمان، ما أصلحه، وأوسع صدره، وكم ظلمه السبئيون والخارجون والحاقدون وكذبوا وافتروا عليه( ).
* * *
المبحث الثاني
سياسة عثمان  في التعامل مع الفتنة
من خلال النصوص التاريخية في العديد من المصادر يتضح أن عثمان  قد واجه الفتنة بعدد من الأساليب وهي:
أولاً: رأي بعض الصحابة بأن يرسل عثمان لجان تفتيش وتحقيق:
اهتز محمد بن مسلمة وطلحة بن عبيد الله وغيرهما لما سمعوا من الإشاعات التي بثها عبد الله بن سبأ في الأمصار، فدخلوا على أمير المؤمنين عثمان على عجل وقالوا: يا أمير المؤمنين، أيأتيك عن الناس الذي يأتينا؟ قال: لا والله، ما جاءني إلا السلامة. قالوا: فإنا قد أتانا، وأخبروه بما تناهى لسمعهم عن الفتنة التي تموج بها الأمصار الإسلامية، وعن الهجوم الشرس على ولاته في كل صقع، وقال: أنتم شركائي وشهود المؤمنين، فأشيروا عليَّ؟ قالوا: نشير عليك أن تبعث رجالا ممن تثق بهم إلى الأمصار حتى يرجعوا إليك بخبرهم( )، فقام عثمان بإجراء سديد عظيم، وتخير نفرا من الصحابة لا يختلف اثنان في صدقهم وتقواهم وورعهم، ونصحهم، اختار محمد بن مسلمة الذي كان عمر يأتمنه على محاسبة ولاته والتفتيش عليهم في الأقاليم، وأسامة بن زيد حِبّ رسول الله × وابن حِبِّه، وأمير الجيش الذي أوصى النبي × بإنفاذه في آخر عهده بالدنيا، فقال: أنفذوا بعث أسامة. وعمار بن ياسر السبَّاق إلى الإسلام، والمجاهد العظيم، وعبد الله بن عمر، التقي الفقيه الورع. فأرسل محمد بن مسلمة إلى الكوفة، وأسامة إلى البصرة، وعمار إلى مصر، وابن عمر إلى الشام، وكانوا على رأس جماعة، فأرسلهم إلى تلك الأمصار الكبيرة، فمضوا جميعا إلى عملهم الشاق المضني الخطير العظيم، ثم عادوا جميعا عدا عمار بن ياسر الذي استبطأ في مصر ثم عاد، وقدموا بين يدي أمير المؤمنين ما شاهدوه وسمعوه وسألوا الناس عنه.( ) وكان ما جاء به هؤلاء واحد في كل الأمصار، وقالوا: أيها الناس، ما أنكرنا شيئا، ولا أنكر المسلمون إلا أن أمراءهم يقسطون بينهم، ويقومون عليهم.( ) وأما ما روي من اتهام عمار بن ياسر  بالتأليب على عثمان  فإن أسانيد الروايات التي تتضمن هذه التهمة ضعيفة، لا تخلو من علة، كما أن في متونها نكارة( ).
رجع مفتشو الأمصار، واتضح بأنه ليس هناك ما يوجب على الخليفة أن يعزل واحدا من ولاته، والناس في عافية وعدل وخير ورحمة واطمئنان، وأمير المؤمنين يعدل في القضية، ويقسم بالسوية، ويرعى حق الله وحق الرعية، وما يثار هو شكوك وأراجيف وأكاذيب يبثها الحاقدون في الظلمات لكي لا يعرف مصدرها، ولكن الخليفة البار الراشد العظيم لم يكتفِ بهذا، بل كتب إلى أهل الأمصار( ).
ثانيًا: كتب إلى أهل الأمصار كتابا شاملا بمثابة إعلان عام لكل المسلمين:
أما بعد: فإني آخذ العمال بموافاتي في كل موسم، وقد سلطت الأمة منذ وليت على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يرفع على شيء ولا على أحد من عمالي إلا أعطيته، وليس لي ولعيالي حق قبل الرعية إلا متروك لهم، وقد رفع إلىَّ أهل المدينة أن أقواما يشتمون، وآخرون يضربون، فيا من ضُرب سرا، وشُتم سرا، من ادعى شيئا من ذلك فليواف الموسم فليأخذ بحقه حيث كان، مني أو من عمالي، أو تصدقوا فإن الله
يجزي المتصدقين، فلما قرئ في الأمصار أبكى الناس، ودعوا لعثمان، وقالوا: إن الأمة لتمخَّض بِشَرّ ( ).
فهل تريد الدنيا أن تسمع بحزم وعزم أعلى وأشمخ من هذا الحزم والعزم من رجل زادت سنه على اثنتين وثمانين سنة، وهو في هذه الفورة والقوة من المتابعة والتنقيب عن المظالم؟ أم هل يريد الناس أن يروا عدلا أرفع وأسمى من هذا العدل والإنصاف، حتى إن حق أمير المؤمنين الشخصي متروك لرعيته، ما دام حق الله قائما وحدوده مرعية؟ نعم عند عثمان، الذي لم يقف عند ذلك، ولم يكتفِ بأن أرسل أمناءه للتفتيش عن أحوال الناس، وكتابته من ثم إلى أهل الأمصار بأن يأتوا موسم الحج ليرفعوا شكاتهم -إن كانت لهم- أمام جموع الحجيج، ولم يكتف عثمان بذلك كله؛ بل بعث إلى عمال الأمصار أنفسهم ليواجهوا الناس عندما يرفعون مظالمهم -إن وجدت- ثم ليسألهم أمير المؤمنين عما يتناقله الناس، وليشيروا عليه بالرأي الناصح السديد الرشيد( ).
ثالثـًا: مشورة عثمان لولاة الأمصار:
بعث عثمان  إلى ولاة الأمصار واستدعاهم على عجل؛ عبد الله بن عامر، ومعاوية ابن أبي سفيان، وعبد الله بن سعد، وأدخل معهم في المشورة سعيد بن العاص، وعمرو بن العاص -وهم من الولاة السابقين-، وكانت جلسة مغلقة وخطيرة جرت فيها الأبحاث التالية التي تقرر خطة العمل الجديدة على ضوء الأخبار المتناهية إلى المدينة عاصمة دولة الإسلام.( ) قال عثمان: ويحكم ما هذه الشكاية؟ وما هذه الإذاعة؟ إني والله لخائف أن يكون مصدوقا عليكم وما يعصب( ) هذا إلا بي، فقالوا له: ألم تبعث؟ ألم يرجع إليك الخبر عن القوم؟ ألم يرجعوا ولم يشافههم أحد بشيء؟ لا والله ما صدقوا ولا بروا، ولا نعلم لهذا الأمر أصلا، وما كنت لتأخذ به أحد فيضمنك على شيء، وما هي إلا إذاعة لا يحل الأخذ بها، ولا الانتهاء إليها. قال: فأشيروا عليَّ، فقال سعيد بن العاص: هذا أمر مصنوع يصنع في السر، فيلقى به غير ذي معرفة، فيخبر به فيتحدث به في مجالسهم، قال: فما دواء ذلك؟ قال: طلب هؤلاء القوم، ثم قتل هؤلاء الذين يخرج هذا من عندهم.
وقال عبد الله بن سعد: خذ من الناس الذي عليهم إذا أعطيتهم الذي لهم، فإنه خير من أن تدعهم. قال معاوية: قد وليتني فوليت قوما لا يأتيك عنهم إلا الخير، والرجلان أعلم بناحيتهما، قال: فما الرأي؟ قال: حسن الأدب، قال: فما ترى يا عمرو؟ قال: أرى أنك قد لنت لهم، وتراضيت عنهم، وزدتهم عما كان يصنع عمر، فأرى أن تلزم طريقة صاحبك فتشد في موضع الشدة, وتلين في موضع اللين، إن الشدة تنبغي لمن لا يألو الناس شرا، واللين لمن يخلف الناس بالنصح، وقد فرشتهما جميعا اللين. وقام عثمان فحمد الله وأثنى عليه وقال: كل ما أشرتم به عليَّ قد سمعت، ولكل أمر باب يؤتى منه، إن هذا الأمر الذي يخاف على هذه الأمة كائن، وإن بابه الذي يغلق عليه فيكفكف به اللين والمؤاتاة والمتابعة، إلا في حدود الله تعالى ذكره، التي لا يستطيع أحد أن يبادي بعيب أحدها، فإن سده شيء فرفق، فذاك والله ليفتحن، وليست لأحد علىَّ حجة حق، وقد علم الله أني لم آل الناس خيرا، ولا نفسي، ووالله إن رحى الفتنة لدائرة فطوبى لعثمان إن مات ولم يحركها، كفكفوا الناس، وهبوا لهم حقوقهم، واغتفروا لهم، وإذا تعوطيت حقوق الله فلا تُدْهنوا فيها( ).
لقد خالف عثمان  رأي أخيه عمرو باتباع الشدة، ولم يخالفه في اتباع سنة صاحبيه، فرحى الفتنة دائرة، ولا تعالج بالعنف؛ لأن العنف هو الذي يدير هذه الرحى، ولن يرضى أمير المؤمنين أن يكون صاحبها (فطوبى لعثمان إن مات ولم يحركها)، وكان واضحا صريحا  فيما لا هوادة فيه وهي حدود الله، فلا مداهنة فيها وما غير ذلك؛ فالرفق أولى والمغفرة أفضل، ولا بد من تأدية الحقوق كلها.( )
وقد جاءت روايات بسند فيه ضعيف ومجهولون تشوه العلاقة بين عمرو بن العاص وعثمان رضي الله عنهما، وساهمت روايات ساقطة في مسخ صورة عمرو بن العاص ، وتحويل علاقته بعثمان  إلى علاقة فاتك خطط لقتل أميره، ثم عاد بانتهازية ليطالب بدمه.( ) وهذه الرواية ضعيفة ومرفوضة عند أهل التاريخ وأهل الحديث.( ) وقد جاء في رواية بسند فيها ضعفاء ومجهولون أيضا بأن عمرو بن العاص قال: يا عثمان: إنك قد ركبت الناس بمثل بني أمية فقلت وقالوا, وزغت وزاغوا، فاعتدل أو اعتزل، فإن أبيت فاعتزم عزما وامض قدما.( ) وجاء في نفس الرواية أن عبد الله بن عامر قال: أرى لك أن تجمرهم
في هذه البعوث حتى يهم كل رجل منهم قمل فروة رأسه ودبر دابته، وتشغلهم عن الإرجاف بك( ).
إن عثمان  منع الولاة من التنكيل بمثيري الشغب (حبسهم أو قتلهم)، وقرر أن يعاملهم بالحسنى واللين( ), وطلب من عماله أن يعودوا إلى أعمالهم، وفق ما أعلنه لهم من أسلوب مواجهة الفتنة التي كان كل بصير يرى أنها قادمة( ).
1- اقتراحان لمعاوية يرفضهما عثمان رضي الله عنهما:
قبل أن يتوجه معاوية بن أبي سفيان إلى الشام، أتى إلى عثمان وقال له: يا أمير المؤمنين, انطلق معي إلى الشام، قبل أن يهجم عليك من الأمور والأحداث ما لا قبل لك بها.
قال عثمان: أنا لا أبيع جوار رسول الله × بشيء ولو كان فيه قطع خيط عنقي. قال له معاوية: إذن أبعث لك جيشا من أهل الشام، يقيم في المدينة، لمواجهة الأخطار المتوقعة ليدافع عنك وعن أهل المدينة، قال عثمان: لا، حتى لا أقتِّر على جيران رسول الله × الأرزاق بجند تساكنهم، ولا أضيق على أهل الهجرة والنصرة. قال له معاوية: يا أمير المؤمنين, والله لتغتالن أو لتغزين، قال عثمان: حسبي الله ونعم الوكيل( ).
لكأنما معاوية  كان يعلم أن وراء تلك الفتن والشائعات يدا خبيثة تخطط لهدف مرهوب ليس دونه ضرب الخليفة والخلافة، لكن عثمان الخليفة الراشد كان له رأي آخر، فهو يريد أن يسير مع هؤلاء لآخر الطريق حتى لا يترك لهم حجة عند الله وعند الناس، فيفضحهم في الدنيا والآخرة، وتلك مصابرة عظيمة من هذا الإمام العادل العظيم( ).
2- عثمان يخترق صفوف المتآمرين بعد مجيئهم للمدينة:
كان أمير المؤمنين عثمان من اليقظة والوعي ما يجعله يحقق بقلم استخباراته مع هؤلاء المتآمرين، حيث بث في صفوفهم رجلين من المسلمين كانا قد عوقبا من الخليفة ليطمئن المتآمرون إليهم، فقد أرسل عثمان رجلين، مخزوميا وزهريا فقال: انظرا ما يريدون واعلما علمهم، وكانا مما نالهما من عثمان أدب فاصطبرا للحق ولم يضطغنا، فلما رأوهما باثوهما وأخبروهما بما يريدون، فقالا: من معكم على هذا من أهل المدينة، قالوا: ثلاثة نفر، فقالا: هل إلا؟ قالوا: لا، قالا: فكيف تريدون أن تصنعوا؟ وشرح هؤلاء القوم للرجلين أبعاد المؤامرة كاملة والخطة المقترحة، وقالوا: نريد أن نذكر له أشياء قد زرعناها في قلوب الناس ثم نرجع إليهم فنزعم لهم أنا قررناه بها فلم يخرج ولم يتب، ثم نخرج كأنا حجاج حتى نقدم فنحيط به فنخلعه، فإن أبى قتلناه وكانت إياها، فرجعا إلى عثمان فضحك وقال: اللهم سلم هؤلاء فإنك إن لم تسلمهم شقوا. فأرسل إلى الكوفيين والبصريين ونادى: الصلاة جامعة، وهم عنده في أصل المنبر، فأقبل أصحاب رسول الله × حتى أحاطوا بهم، فحمد الله وأثنى عليه، وأخبرهم خبر القوم، وحقيقة ما يريدون من تأكيد الشبهات عليه تمهيدا للخروج عليه وخلعه أو قتله، وقام الرجلان اللذان حادثا السبئيين، فشهدا بما أخبروهما به، فقال المسلمون جميعا في داخل المسجد: اقتلهم يا أمير المؤمنين، لأنهم يريدون الخروج على أمير المؤمنين، وتفريق كلمة المسلمين. ورفض عثمان  دعوة الصحابة لقتلهم؛ لأنهم مسلمون في الظاهر، من رعيته، ولا يرضى أن يقال: عثمان يقتل مسلمين مخالفين له، ولذلك رد عثمان بن عفان على تلك الدعوة قائلا: لا نقتلهم، بل نعفو ونصفح، ونبصرهم بجهدنا، ولا نقتل أحدا من المسلمين، إلا إذا ارتكب حدًّا يوجب القتل، أو أظهر ردة وكفرا( ).
رابعًا: إقامة الحجة على المتمردين:
ثم دعا عثمان القوم السبئيين إلى عرض ما عندهم من شبهات وإظهار ما يرونه من أخطاء وتجاوزات ومخالفات وقع هو فيها، وكانت جلسة مصارحة ومكاشفة في المسجد على مرأى ومسمع من الصحابة والمسلمين، فتكلم السبئيون وعرضوا الأخطاء التي ارتكبها عثمان - على حد زعمهم-, وقام عثمان  بالبيان والإيضاح وقدم حججه وأدلته فيما فعل، والمسلمون المنصفون يسمعون هذه المصارحة والمحاسبة والمكاشفة، وأورد عثمان ما أخذوه عليه، ثم بين حقيقة الأمر ودافع عن حسن فعله، وأشهد معه الصحابة الجالسين في المسجد( ).
1- قال: قالوا: إني أتممت الصلاة في السفر، وما أتمها قبلي رسول الله ولا أبو بكر ولا عمر، لقد أتممت الصلاة لما سافرت من المدينة إلى مكة، ومكة بلد فيها أهلي فأنا مقيم بين أهلي ولست مسافرا، أكذلك؟ فقال الصحابة: اللهم نعم.
2- وقالوا: إني حميت حمى، وضيَّقت على المسلمين، وجعلت أرضا واسعة خاصة لرعي إبلي، ولقد كان الحمى قبلي لإبل الصدقة والجهاد، حيث جعل الحمى كل من رسول الله وأبو بكر وعمر، وأنا زدت فيه لما كثرت إبل الصدقة والجهاد، ثم لم نمنع ماشية فقراء المسلمين من الرعي في ذلك الحمى، وما حميت لماشيتي، ولما وليت الخلافة كنت من أكثر المسلمين إبلا وغنما، وقد أنفقتها كلها، ومالي الآن ثاغية ولا راغية، ولم يبق لي إلا بعيران، خصصتهما لحجي، أكذلك؟ فقال الصحابة: اللهم نعم.
3- وقالوا: إني أبقيت نسخة واحدة من المصاحف، وحرقت ما سواها، وجمعت الناس على مصحف واحد، ألا إن القرآن كلام الله، من عند الله، وهو واحد، ولم أفعل سوى أن جمعت المسلمين على القرآن، ونهيتهم عن الاختلاف فيه، وأنا في فعلي هذا تابع لما فعله أبو بكر، لما جمع القرآن، أكذلك؟ فقال الصحابة: اللهم نعم.
4- وقالوا: إني رددت الحكم بن أبي العاص إلى المدينة، وقد كان رسول الله × نفاه إلى الطائف، إن الحكم بن العاص مكي، وليس مدنيا، وقد سيره رسول الله × من مكة إلى الطائف، وأعاده الرسول × إلى مكة بعدما رضي عنه، فالرسول × سيره إلى الطائف، وهو الذي رده وأعاده، أكذلك؟ فقال الصحابة: اللهم نعم.
5- وقالوا: إني استعملت الأحداث ووليت الشباب صغار السن، ولم أولِّ إلا رجلا فاضلا محتملا مرضيا، وهؤلاء الناس أهل عملهم فسلوهم عنهم. ولقد ولى الذين من قبلي من هم أحدث منهم وأصغر منهم سنا، ولقد ولى رسول الله × أسامة بن زيد وهو أصغر ممن وليته، وقالوا لرسول الله × أشد مما قالوا لي، أكذلك؟ قال الصحابة: اللهم نعم، إن هؤلاء الناس يعيبون للناس ما لا يفسرونه ولا يوضحونه.
6- وقالوا: إني أعطيت عبد الله بن سعد بن أبي السرح ما أفاء الله به، وإنما أعطيته خمس الخمس -وكان مئة ألف- لما فتح أفريقية، جزاء جهده، وقد قلت له: إن فتح الله عليك أفريقية فلك خمس الخمس من الغنيمة نفلا، وقد فعلها قبلي أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- ومع ذلك قال لي الجنود المجاهدون: إنا نكره أن تعطيه خمس الخمس ولا يحق لهم الاعتراض والرفض، فأخذت خمس الخمس من ابن سعد ورددته على الجنود، وبذلك لم يأخذ ابن سعد شيئا، أكذلك؟ قال الصحابة: اللهم نعم.
7- وقالوا: إني أحب أهل بيتي وأعطيهم، فأما حبي لأهل بيتي فإنه لم يحملني على أن أميل معهم إلى جور وظلم الآخرين، بل أحمل الحقوق عليهم وآخذ الحق منهم، وأما إعطاؤهم فإني أعطيهم من مالي الخاص، وليس من أموال المسلمين، لأني لا أستحل أموال المسلمين، ولا لأحد من الناس. ولقد كنت أعطي العطية الكبيرة الرغيبة من صلب مالي أزمان رسول الله × وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وأنا يومئذ شحيح حريص، أفحين أتيت على أسنان أهل بيتي، وفني عمري، وجعلت مالي الذي لي لأهلي وأقاربي، قال الملحدون ما قالوا؟ وإني والله ما أخذت من مصر من أمصار المسلمين مالا ولا فضلا، ولقد رددت على تلك الأمصار الأموال، ولم يحضروا إلى المدينة إلا الأخماس من الغنائم، ولقد تولى المسلمون تقسيم تلك الأخماس، ووضعها في أهلها، ووالله ما أخذت من تلك الأخماس وغيرها فِلْسًا فما فوقه، وإنني لا آكل إلا من مالي، ولا أعطي أهلي إلا من مالي.
8- وقالوا: إني أعطيت الأرض المفتوحة لرجال معينين، وإن هذه الأرضين المفتوحة قد اشترك في فتحها المهاجرون والأنصار وغيرهم من المجاهدين، ولما قسمت هذه الأراضي على المجاهدين الفاتحين، منهم من أقام بها واستقر فيها، ومنهم من رجع إلى أهله في المدينة
أو غيرها، وبقيت تلك الأرض ملكا له، وقد باع بعضهم تلك الأراضي، وكان ثمنها
في أيديهم.
وبذلك أورد عثمان  أهم الاعتراضات التي أثيرت عليه، وتولي توضيحها، وبيان وجه الحق فيها.( ) وترى من ذلك الدفاع المحكم الذي دافع به عثمان بن عفان , وساجل الصحابة فيه وذاكرهم إياه صورة لما كان يجري من النقد المر العنيف له  وما كان يشيعه السبئيون من قالة السوء، وما يعملون على ترويجه من باطل مزيف، فقد أجمل  ذكر الاعتراضات التي كانوا يعترضون بها عليه، وبيَّن وجه الحق فيما يفعل، وأنه كان على بينة من أمره وعلى حجة من دينه، ولكنهم مغرضون لا يريدون رشادا، ولا يبغون سدادا، فمجادلته لهم مجادلة رجل مخلص مع آخر يتربص به الدوائر ويتسقط هفواته لينفذ أغراضا, ويلقى في نفوس الناس عنه إعراضا، ومن كان شأنه كذلك لا تقنعه الحجة، ولا يهديه الدليل، ومن يضلل الله فلا هادي له( ).
وقد سمع كلامه وتوضيحه زعماء أهل الفتنة الذين بجانب المنبر، كما سمعه الصحابة الكرام ومن معهم من المسلمين الصالحين، وتأثر المسلمون بكلام عثمان وبيانه وتوضيحه وصدقوه فيما قال، وازدادوا له حبًّا، وأما السبئيون دعاة الفتنة والفرقة، فلم يتأثروا بذلك ولم يتراجعوا؛ لأنهم لم يكونوا باحثين عن حق، ولا راغبين في خير، إنما كان هدفهم الفتنة، والكيد للإسلام والمسلمين. وقد أشار الصحابة والمسلمون على عثمان بقتل أولئك السبئيين (زعماء الفتنة) بسبب ما ظهر من كذبهم وتزويرهم، وحقدهم بل أصروا عليه في قتلهم، ليتخلص المسلمون من شرهم، وتستقر بلاد المسلمين ويقضي على الفتنة التي يثيرها هؤلاء وأتباعهم، ولكن عثمان كان له رأي آخر وتحليل مغاير، فآثر أن يتركهم، ورأي عدم قتلهم محاولة منه لتأخير وقوع الفتنة، ولم يتخذ عثمان ضد السبئيين القادمين من مصر والكوفة والبصرة أي إجراء مع علمه بما يخططون ويريدون، وتركهم يغادرون المدينة ويعودون إلى بلادهم( ).
خامسًا: الاستجابة لبعض مطالبهم:
استجاب لبعض مطالبهم في خلع بعض الولاة وتولية من طلبوا توليته، هذه الأساليب كافية في المعالجة وإقامة الحق والعدل لو كانت الأمور تسير في وضعها الطبيعي، لكن الواقع أن وراء هذه الشكاوى والإثارات أمورًا خفية، وأحقادا جاهلية تسعى لإثارة الفتنة بين المسلمين وتفريق وحدتهم، ووقوع ما أخبر به النبي × من استشهاد عثمان ( ).
سادسًا: ضوابط التعامل مع الفتن عند عثمان :
إن المتأمل في هدي عثمان  في تعامله مع الفتنة التي وقعت في عهده يمكنه أن يستنبط بعض الضوابط التي تعين المسلم في مواجهته للفتن، ومن هذه الضوابط:
1- التثبت: فقد أرسل لجان تفتيش للأمصار واستمع لأهلها، واستطاع أن يخترق جماعة السبئيين ويقف على حقيقة أمرهم، ولم يستعجل في إصداره للأحكام عليهم.
2- لزوم العدل والإنصاف: فقد اتضح هذا الضابط في كتابه للأمصار، وطلب
ممن ادعى أنه شتم أو ضرب من الولاة فليواف الموسم فليأخذ بحقه حيث كان منه
أو من عماله( ).
3- الحلم والأناة: ويتضح هذا الضابط في كتابه لأهل الكوفة عندما طلبوا عزل سعيد بن العاص وتعيين أبا موسى الأشعري وقد جاء في هذا الكتاب: «.. والله لأفرشنكم عرضي، ولأبذلن لكم صبري، ولاستصلحنَّكم بجهدي، فلا تدعوا شيئا أحببتموه لا يعصى الله فيه إلا سألتموه، ولا شيئا كرهتموه لا يعصى الله فيه إلا استعفيتم منه».( )
4- الحرص على ما يجمِّع، ونبذ ما يفرق بين المسلمين: ولذلك جمع الناس على مصحف واحد كما مر معنا، وعندما عرض عليه الأشتر النخعي عروضا ثلاثة -يأتي تفصيلها بإذن الله- قال عثمان: «... وإن قتلتموني فلم أرتكب ما يوجب قتلي، والله لئن قتلتموني فإنكم لا تتحابون بعدي أبدا، ولا تصلون جميعا بعدي أبدا، ولا تقاتلون العدو جميعا بعدي».( )
5- لزوم الصمت والحذر من كثرة الكلام: من خلال سيرة عثمان  تتضح صفة قلة كلامه إلا فيما ينفع من علم أو نصح أو توجيه أو رد اتهامات باطلة، وقد كان  كثير الصمت قليل الكلام.
6- استشارة العلماء الربانيين: فقد كان  يستشير علماء الصحابة كعلي، وطلحة، والزبير، ومحمد بن مسلمة، وابن عمر، وعبد الله بن سلام رضي الله عنهم جميعا، فالعلماء هم صمام الأمان، والملجأ في الخطوب المدلهمة والفتن المظلمة؛ لأنهم أبصر الناس بحالها، وأعرفهم بمآلها، فمن التجأ إليهم وجد الفهم السليم والنظر الصحيح، والموقف الشرعي الواضح( ).
7- الاسترشاد بأحاديث رسول الله × في الفتن: إن منهج عثمان  أثناء الفتنة ومسلكه مع المتمردين الذين خرجوا عليه لم تفرضه عليه مجريات الأحداث ولا ضغط الواقع؛ بل كان منهجا نابعا من مشكاة النبوة؛ حيث أمره رسول الله × بالصبر والاحتساب وعدم القتال حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، وقد وفَّى ذو النورين  بوعده وعهده لرسول الله × طوال أيام خلافته حتى خر شهيدا مضرجًا بدمائه الطاهرة الزكية( ).
وقد قال محب الدين الخطيب: الذي يدل عليه مجموع الأخبار عن موقف عثمان من أمر الدفاع عنه أو الاستسلام للأقدار، هو أنه كان يكره الفتنة، ويتقي الله في دماء المسلمين، إلا أنه صار في آخر الأمر يود لو كانت لديه قوة راجحة يهابها البغاة، فيرتدعون عن بغيهم، بلا حاجة إلى استعمال السلاح للوصول إلى هذه النتيجة، وقبل أن تبلغ الأمور مبلغها عرض عليه معاوية أن يرسل إليه قوة من جند الشام تكون رهن إشارته فأبى أن يضيق على أهل دار الهجرة بجند يساكنهم، وكان لا يظن أن الجرأة تبلغ بفريق من إخوانه المسلمين إلى أن يتكالبوا على دم أول مهاجر إلى الله في سبيل دينه، فلما تذاءب عليه البغاة واعتقد أن الدفاع عنه تسفك فيه الدماء جزافا، عزم على كل من له عليهم سمع وطاعة أن يكفوا أيديهم وأسلحتهم عن مزالق العنف. والأخبار بذلك مستفيضة في مصادر أوليائه وشانئيه، على أنه لو ظهرت في الميدان قوة منظمة ذات هيبة تقف في وجوه الثوار، وتضع حدا لغطرستهم وجاهليتهم، لارتاح عثمان لذلك وسر به، مع ما هو مطمئن إليه من أنه لن يموت إلا شهيدا( ).
* * *
المبحث الثالث
احتلال أهل الفتنة للمدينة
أولاً: قدوم أهل الفتنة من الأمصار:
اتفق أهل الفتنة فيما بينهم على القيام بخطوتهم العملية النهائية في مهاجمة عثمان في المدينة، وحمله على التنازل عن الخلافة وإلا يقتل، وقرروا أن يأتوا من مراكزهم الثلاثة: مصر والكوفة والبصرة في موسم الحج، وأن يغادروا بلادهم مع الحجاج، وأن يكونوا في صورة الحجاج، وأن يعلنوا للآخرين أنهم خارجون للحج، فإذا وصلوا المدينة، تركوا الحجاج يذهبون إلى مكة لأداء مناسك الحج، واستغلوا فراغ المدينة من معظم أهلها -المشغولين بالحج- وقاموا بمحاصرة عثمان تمهيدا لخلعه أو قتله.( ) وفي شوال سنة خمس وثلاثين كان أهل الفتنة على مشارف المدينة( ), فقد خرج المتمردون من مصر في أربع فرق لكل فرقة أمير، ولهؤلاء الأمراء أمير ومعهم شيطانهم عبد الله بن سبأ وأمراء الفرق الأربعة، هم: عبد الرحمن بن عديس البلوي، وكنانة بن بشير التجيبي، وسودان بن حمران السكوني، وقتيرة بن فلان السكوني، وأمير هؤلاء الأمراء هو الغافقي بن حرب العكي، وكان عدد الفرق الأربعة ألف رجل. وخرج المتمردون من الكوفة ألف رجل، في أربع فرق، وأمراء فرقهم هم: زيد بن صوحان العبدي، والأشتر النخعي، وزياد بن النضر الحارثي، وعبد الله بن الأصم، وأمير متمردي الكوفة هو عمرو بن الأصم. وخرج متمردو البصرة ألف رجل، في أربع فرق، وأمراء فرقهم، هم: حكيم بن جبلة العبدي، وذريح بن عباد، وبشر بن شريح القيسي، وابن المحرش ابن عبد الحنقي، وأمير متمردي البصرة هو حرقوص بن زهير السعدي. وكان عبد الله بن سبأ يسير مع هؤلاء مزهوا مسرورا بنجاح خطته اليهودية الشيطانية، وكان أهل الفتنة من مصر يريدون علي بن أبي طالب خليفة، وكان أهل الفتنة من الكوفة يريدون الزبير بن العوام خليفة، وكان أهل الفتنة من البصرة يريدون طلحة بن عبيد الله.( ) وهذا العمل منهم كان بهدف الإيقاع بين الصحابة رضوان الله عليهم، وهو ما ذهب إليه الآجري حيث قال: وقد برأ الله -عز وجل- علي بن أبي طالب  وطلحة والزبير رضي الله عنهم من هذه الفرق، وإنما أظهروا ليموهوا على الناس وليوقعوا بين الصحابة، وقد أعاذ الله الكريم الصحابة من ذلك( ).
وبلغ خبر قدومهم عثمان  قبل وصولهم، وكان في قرية خارج المدينة فلما سمعوا بوجوده فيها، اتجهوا إليه فاستقبلهم فيها، ولم تصرح لنا الروايات باسم هذه القرية، ويحدد المدائني تاريخ قدومهم بليلة الأربعاء هلال ذي القعدة( ), وكان أول من وصل المصريين، فقالوا لعثمان: ادع بالمصحف فدعا به، فقالوا: افتح السابعة، وكانوا يسمون سورة يونس بالسابعة، فقرأ حتى أتى هذه الآية: +قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنْزَلَ اللهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ" [يونس: 59].
فقالوا له: قف أرأيت ما حميت من الحمى؟ الله أذن لك أم على الله تفتري؟ فقال: امضه نزلت في كذا وكذا، فأما الحمى فإن عمر حماه قبلي لإبل الصدقة، فلما وليت زادت إبل الصدقة فزدت في الحمى لما زاد من إبل الصدقة. امضه، قال: فجعلوا يأخذونه بالآية، فيقول: امضه نزلت في كذا فما يزيدون، فأخذوا ميثاقه، وكتبوا عليه شرطا، وأخذ عليهم ألا يشقوا عصا، ولا يفارقوا جماعة ما أقام لهم شرطهم، ثم رجعوا راضين( ).
* علي بن أبي طالب يرسله عثمان للمفاوضة مع أهل الفتنة من الأمصار:
ونزل القوم في ذي المروة، قبل مقتله بما يقارب شهرا ونصفا، فأرسل عثمان إليهم عليا  ورجلا آخر لم تسمه الروايات، والتقى بهم علي  فقال لهم: تعطون كتاب الله وتعتبون من كل ما سخطتم، فوافقوا على ذلك.( ) وفي رواية أنهم شادوه، وشادهم مرتين أو ثلاثا، ثم قالوا: ابن عم رسول الله × ورسول أمير المؤمنين يعرض عليكم كتاب الله فقبلوا( )، فاصطلحوا على خمس: على أن المنفى يقلب، والمحروم يعطى، ويوفر الفيء، ويعدل في القسم، ويستعمل ذو الأمانة والقوة، وكتبوا ذلك في كتاب، وأن يرد ابن عامر على البصرة، وأن يبقى أبو موسى على الكوفة( ).
وهكذا اصطلح عثمان  مع كل وفد على حدة ثم انصرفت الوفود إلى ديارها( ).
* الكتاب المزعوم بقتل وفد أهل مصر:
وبعد هذا الصلح وعودة أهل الأمصار جميعا راضين تبين لمشعلي الفتنة أن خطتهم قد فشلت، وأن أهدافهم الدنيئة لم تتحقق، لذا خططوا تخطيطا آخر يذكي الفتنة ويحييها يقتضي تدمير ما جرى من صلح بين أهل الأمصار وعثمان ، وبرز ذلك فيما يأتي: في أثناء طريق عودة أهل مصر، رأوا راكبا على جمل يتعرض لهم، ويفارقهم -يُظهر أنه هارب منهم- فكأنه يقول: خذوني، فقبضوا عليه، وقالوا له: ما لك؟ فقال: أنا رسول أمير المؤمنين إلى عامله بمصر، ففتشوه فإذا هم بالكتاب على لسان عثمان  وعليه خاتمه إلى عامله، ففتحوا الكتاب فإذا فيه أمر بصلبهم أو قتلهم، أو تقطيع أيديهم وأرجلهم، فرجعوا إلى المدينة حتى وصلوها( ). ونفى عثمان  أن يكون كتب هذا الكتاب، وقال لهم: إنهما اثنتان: أن تقيموا رجلين من المسلمين أو يمين بالله الذي لا إله إلا هو ما كتبت ولا أمللت، ولا علمت، وقد يكتب الكتاب على لسان الرجل وينقش الخاتم، فلم يصدقوه( ).
وهذا الكتاب الذي زعم هؤلاء المتمردون البغاة المنحرفون أنه من عثمان، وعليه خاتمه يحمله غلامه على واحد من إبل الصدقة إلى عامله بمصر ابن أبي السرح، يأمر فيه بقتل هؤلاء الخارجين هو كتاب مزور مكذوب على لسان عثمان، وذلك لعدة أمور:
1- إن حامل الكتاب المزور قد تعرض لهؤلاء المصريين ثم فارقهم، وكرر ذلك مرارا، وهو لم يفعل ذلك إلا ليلفت أنظارهم إليه، ويثير شكوكهم فيه، وكأنه يقول لهم: معي شيء هام بشأنكم. وإلا فلو كان من عثمان لخافهم حامل الكتاب المزعوم، ولأبعد عنهم, وأسرع إلى والي مصر ليضع بين يديه الأمر فينفذه.
2- كيف علم العراقيون بالأمر وقد اتجهوا إلى بلادهم، وفصلتهم عن المصريين -الذين أمسكوا بالكتاب المزعوم- مسافة شاسعة؛ فالعراقيون في الشرق والمصريون في الغرب، ومع ذلك عادوا جميعا في آن واحد كأنما كانوا على ميعاد؟ لا يعقل هذا إلا إذا كان الذين زوروا الكتاب واستأجروا راكبا ليحمله ويمثل الدور في (البويب) أمام المصريين، قد استأجروا راكبا آخر انطلق إلى العراقيين ليخبرهم بأن المصريين قد اكتشفوا كتابا بعث به عثمان لقتل المنحرفين المصريين، وهذا ما احتج به علي بن أبي طالب  فقد قال: كيف علمتم يا أهل الكوفة ويا أهل البصرة بما لقي أهل مصر، وقد سرتم مراحل ثم طويتم نحونا( ). بل إن عليًّا يجزم: هذا والله أمر أبرم بالمدينة( ).
3- كيف يكتب عثمان إلى ابن أبي السرح بقتل هؤلاء وابن أبي السرح كان عقب خروج المتمردين من مصر متجهين إلى المدينة كتب إلى الخليفة يستأذنه بالقدوم عليه، وقد تغلب على مصر محمد بن أبي حذيفة، وفعلا خرج ابن أبي السرح من مصر إلى العريش وفلسطين فالعقبة، فكيف يكتب له عثمان بقتلهم وعنده كتابه الذي يستأذنه به منه بالقدوم عليه؟
4- إن عثمان  قد نهى عن قتل المتمردين عندما حاصروه وأبى على الصحابة أن يدافعوا عنه، ولم يأمر بقتال الخارجين دفاعا عن نفسه، كما سيأتي تفصيله إن شاء الله، فكيف يكتب مثل هذا الكتاب المزور وقد خرجوا عنه من المدينة مظهرين التوبة والإنابة.
5- تخلف حُكيم بن جبلة والأشتر النخعي -بعد خروج المتمردين- في المدينة يشير إشارة واضحة إلى أنهما هما اللذان افتعلا الكتاب، إذ لم يكن لهما أي عمل بالمدينة ليتخلفا فيها، وما مكثا إلا لمثل هذا الغرض، فهما صاحبا المصلحة في ذلك.( ) وربما كان ذلك بتوجيه من عبد الله بن سبأ, ولم يكن لعثمان  في ذلك أية مصلحة، وكذلك ليس لمروان بن الحكم أية مصلحة، والذين يتهمون مروان في هذا إنما ينسبون إلى الخليفة الغفلة عن مهامه، وأن في ديوان الخلافة من يجري الأمور ويقضي بها دون علمه، وبذلك يبرئون ساحة أولئك المجرمين الناقمين، الغادرين، ثم لو أن مروان زور الكتاب لكان أوصى حامل ذلك الكتاب أن يبتعد عن أولئك المنحرفين، ولا يتعرض لهم في الطريق حتى يأخذوه وإلا لكان متآمرا معهم على عثمان، وهذا محال.
6- إن هذا الكتاب المشئوم ليس أول كتاب يزوره هؤلاء المجرمون، بل زوروا كتبا على لسان أمهات المؤمنين، وكذلك على لسان علي وطلحة والزبير، فهذه عائشة -رضي الله عنها- تُتهم بأنها كتبت إلى الناس تأمرهم بالخروج على عثمان فتنفي وتقول: لا والذي آمن به المؤمنون, وكفر به الكافرون، ما كتبت لهم سوداء في بيضاء حتى جلست مجلسي هذا( ).
ويعقب الأعمش فيقول: فكانوا يرون أنه كتب على لسانها.( ) ويتهم الوافدون عليا بأنه كتب إليهم أن يقدموا عليه بالمدينة، فينكر ذلك عليهم، ويقسم: والله ما كتبت إليكم كتابا.( ) كما ينسب إلى الصحابة بكتابة الكتب إلى أهل الأمصار يأمرونهم بالقدوم إليهم، فدين محمد قد فسد وترك، والجهاد في المدينة خير من الرباط في الثغور البعيدة.( ) ويعلق ابن كثير على هذا الخبر قائلا: وهذا كذب على الصحابة، وإنما كتبت كتب مزورة عليهم، فقد كتب من جهة علي وطلحة والزبير إلى الخوارج -قتلة عثمان- كتبٌ مزورة عليهم أنكروها، وكذلك زور هذا الكتاب على عثمان أيضا، فإنه لم يأمر به، ولم يعلم به.( ) ويؤكد كلام ابن كثير ما رواه الطبري وخليفة من استنكار كبار الصحابة -علي وعائشة والزبير- أنفسهم لهذه الكتب في أصح الروايات.( ) إن الأيدي المجرمة التي زورت الرسائل الكاذبة على لسان أولئك الصحابة هي نفسها التي أوقدت نار الفتن من أولها إلى آخرها، ورتبت ذلك الفساد العريض، وهي التي زورت وروجت على عثمان تلك الأباطيل، وأنه فعل وفعل، ولقنتها للناس، حتى قبلها الرعاع، ثم زورت على لسان عثمان ذلك الكتاب ليذهب عثمان ضحية إلى ربه شهيدا سعيدا. ولم يكن عثمان الشهيد هو المجني عليه وحده في هذه المؤامرة السبئية اليهودية، بل الإسلام نفسه كان مجنيا عليه قبل ذلك، ثم التاريخ المشوه المحرف والأجيال الإسلامية التي تلقت تاريخها مشوها هي كذلك ممن جنى عليهم الخبيث اليهودي، وأعوانه من أصحاب المطامع والشهوات والحقد الدفين، أما آن للأجيال الإسلامية أن تعرف تاريخها الحق، وسير رجالاتها العظام؟ بل ألم يأن لمن يكتب في هذا العصر من المسلمين أن يخاف الله ولا يتجرأ على تجريح الأبرياء، قبل أن يحقق ويدقق حتى لا يسقط كما سقط غيره؟!.( )
ثانيًا: بدء الحصار ورأي عثمان في الصلاة خلف أئمة الفتنة:
لم تفصِّل الروايات الصحيحة كيفية بدء الحصار ووقوعه، ولعل الأحداث التي سبقته تلقي شيئا من الضوء على كيفية بدئه، فبينما كان عثمان  يخطب الناس ذات يوم إذا برجل -يقال له أعين( ) - يقاطعه ويقول له: يا نعثل( ), إنك قد بدلت، فقال عثمان : من هذا؟ فقالوا: أعين، قال عثمان: بل أنت أيها العبد، فوثب الناس إلى أعين، وجعل رجل من بني ليث يزعهم عنه حتى أدخله الدار.( ) وكان رجوع المتمردين الثاني، وقبل اشتداد الحصار كان عثمان  يتمكن من الخروج للصلاة ودخول من شاء إليه، ثم مُنع من الخروج من الدار حتى إلى صلاة الفريضة( )، فكان يصلي بالناس رجل من المحاصِرين من أئمة الفتنة، حتى إن عبيد الله بن عدي بن الخيار تحرج من الصلاة خلفه، فاستشار عثمان في ذلك، فأشار عليه بأن يصلي خلفه، وقال له: الصلاة أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم.( ) وفي بعض الروايات الضعيفة أن الذي كان يصلي بالناس هو أميرهم الغافقي( ). ولا صحة لما روى الواقدي من أن عليًّا  أمر أبا أيوب الأنصاري أن يصلي بالناس فصلى بهم أول الحصر، ثم صلى علي  بهم العيد وما بعده.( ) وإضافة إلى شدة ضعف إسناد هذه الرواية، فلو كان الذي يصلي بالناس هو علي، أو أبو أيوب -رضي الله عنهما- لما تحرج عبيد الله بن عدي بن الخيار من الصلاة خلفهما( ).
ثالثـًا: المفاوضات بين عثمان ومحاصريه:
وبعد أن تم الحصار، وأحاط الخارجون على عثمان  بالدار طلبوا منه خلع نفسه أو يقتلوه( ), فقد رفض عثمان  خلع نفسه، وقال: لا أخلع سربالا سربلنيه الله.( ) يشير إلى ما أوصاه به رسول الله × بينما كان قلة من الصحابة -رضوان الله عليهم- يرون خلاف ما ذهب إليه, وأشار عليه بعضهم بأن يخلع نفسه ليعصم دمه، ومن هؤلاء المغيرة بن الأخنس ، لكنه رفض ذلك( ).
1- ابن عمر يحث عثمان على عدم التنازل عن منصب الخلافة:
دخل ابن عمر على عثمان -رضي الله عنهما- أثناء حصاره، فقال له عثمان : انظر إلى ما يقول هؤلاء، يقولون: اخلعها ولا تقتل نفسك، فقال ابن عمر رضي الله عنهما: إذا خلعتها أمخلد أنت في الدنيا؟ فقال عثمان : لا، قال: فإن لم تخلعها هل يزيدون على أن يقتلوك؟ قال عثمان : لا، قال: فهل يملكون لك جنة أو نارًا؟ قال: لا، قال: فلا أرى لك أن تخلع قميصا قمَّصكه الله فتكون سنة كلما كره قوم خليفتهم أو إمامهم قتلوه( ).
رضي الله عن عبد الله بن عمر، ما كان أبعد نظره، إنه لا يريد أن يسن عثمان سنة سيئة للخلفاء، وحاشا لعثمان أن يفعل، فلو تنازل عثمان لهؤلاء الخوارج السبئيين وخلع نفسه، لصار الخلفاء ألعوبة وملهاة بأيدي الطامعين أو المغرضين، وبذلك تهتز صورة الخليفة، وتزول هيبته عند الناس، ولقد سن عثمان سنة حسنة لمن بعده بمشورة ابن عمر وغيره من الصحابة رضوان الله عليهم؛ حيث صبر واحتسب فلم يتنازل عن الخلافة ولم يسفك دماء المسلمين( ).
إن الاستجابة لمطالب المتمردين، وهم فئة قليلة من الأمة ليسوا من أهل الحل والعقد، ولا من رجالات الإسلام وفقهاء الشريعة، ستكون لها آثار خطيرة على مسيرة الأمة، وهيبة الخلافة وعلاقة الراعي بالرعية، وكان ثمن دفع هذه الآثار السيئة أن دفع الخليفة حياته، وهو يعلم بمصيره ويستسلم له, وهو أمر ثقيل على النفس، ولكنه قدم مصالح الأمة على مصلحته الشخصية، مما يكشف عن قوة وعزيمة، وشجاعة ومضاء، ويرد به على تلك التهم التي وجهت إليه من ضعف في هذه الصفات، فإنه  كان قادرا - بإذن الله - على كبح الفتنة، ولكنه قدر حدوث مفاسد تغلب على مصلحة كبحها، فأعرض عن ذلك درءا لها، وبذلك يعلم خطأ العقاد عندما قال بأن قتل عثمان لا يوصف بأكثر من أنه (مشاغبة دهماء) لم تجد من يكبحها.( ) فإن في ذلك غمزا في شخصية وشجاعة عثمان ، وهي حقا فتنة دهماء، ولكن عدم كبحها يعد منقبة لعثمان ، لما فيه من تضحية في سبيل الله رجاء تحصيل مصلحة للأمة، وعملا بوصية رسول الله ×( ).
2- توعد المحاصرين له بالقتل:
وبينما كان عثمان  في داره، والقوم أمام الدار محاصروها دخل ذات يوم مدخل الدار، فسمع توعد المحاصرين له بالقتل، فخرج من المدخل ودخل على من معه في الدار ولونه ممتقع، فقال: إنهم ليتوعدونني بالقتل آنفا، فقالوا له: يكفيكم الله يا أمير المؤمنين، فقال: ولِمَ يقتلونني وقد سمعت رسول الله × يقول: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا في إحدى ثلاث: رجل كفر بعد إيمانه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفسا بغير نفس»؟ فوالله ما زنيت في جاهلية ولا في إسلام قط، ولا تمنيت أن لي بديني بدلا منذ هداني الله، ولا قتلت نفسا، ففيم يقتلونني؟!( ) ثم أشرف على المحاصرين وحاول تهدئة ثورتهم عن خروجهم على إمامهم، مضمنا كلامه الرد على ما عابوه به، وكشف الحقائق التي لبَّسها القوم، عسى أن يفيق المغرور بهم ويعودوا إلى رشدهم، فطلب من المحاصرين أن يخرجوا له رجلا يكلمه، فأخرجوا له شابا يقال له: صعصعة بن صوحان، فطلب عثمان  أن يبين له ما نقموه عليه( ).
3- إقامة عثمان الحجة على زيف استدلال صعصعة:
قال صعصعة: أخرجنا من ديارنا بغير حق إلا أن قلنا ربنا الله، فقال له عثمان :
اتل -أي استدل بالقرآن- فقرأ: +أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ
لَقَدِيرٌ" [الحج: 39].
فقال عثمان: ليست لك، ولا لأصحابك، ولكنها لي ولأصحابي، فقرأ عثمان الآية التي استدل بها صعصعة وما بعدها، مما يفسرها ويبين زيف استدلال صعصعة بها فتلا: +أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ  الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ  الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ" [الحج: 39- 41]. فأفهم عثمان  الناس الآيات فهما صحيحا كما نزلت، مبينا سبب نزولها وفيمن نزلت، وعلى ما تدل؛ لئلا يلبس عليهم من قرأ القرآن، وهو لا يعرف معناه ويستدل به على ما يضاد مراده.( ) كما أن نفي عثمان لمن نفاه إنما هو عمل بالآية التي تلي الآية التي استدل بها صعصعة، فإنها تأمر من مكنه الله في الأرض أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وعثمان خليفة، ونفيهم أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، لما قاموا به من تعدٍّ على بعض المسلمين، ومن محاولات لإثارة الفتنة.( )
4- تذكير عثمان  الناس بفضائله:
وبعد أن رد عثمان  على هؤلاء ذكَّر الناس بمكانته وببعض فضائله، مناشدا من يعلمها أو سمعها من رسول الله × ليبينها للناس، فقد قال: أنشد الله من شهد رسول الله × يوم حراء إذ اهتز الجبل فركله بقدمه ثم قال: اسكن حراء، ليس عليك إلا نبي أو صدِّيق أو شهيد وأنا معه. فانتشد له رجال، ثم قال: أنشد الله من شهد رسول الله يوم بيعة الرضوان إذ بعثني إلى المشركين إلى أهل مكة فقال: هذه يدي وهذه يد عثمان، فبايع لي، فانتشد له رجال، ثم قال: أنشد الله من شهد رسول الله × قال: من يوسع لنا البيت في المسجد ببيت له في الجنة، فابتعته من مالي فوسعت به المسجد، فانتشد له رجال، ثم قال: أنشد الله من شهد رسول الله × يوم جيش العسرة قال: من ينفق اليوم نفقة متقبلة؟ فجهزت نصف الجيش من مالي، فانتشد له رجال، ثم قال: أنشد الله من شهد رومة يباع ماؤها ابن السبيل فابتعتها من مالي فأبحتها ابن السبيل، قال: فانتشد له رجال.( )
وعن أبي ثور الفهمي يقول: قدمت على عثمان، فبينا أنا عنده فخرجت فإذا بوفد أهل مصر قد رجعوا، فدخلت على عثمان فأعلمته، قال: فكيف رأيتهم؟ فقلت: رأيت في وجوههم الشر، وعليهم ابن عديس البلوي، فصعد ابن عديس منبر رسول الله × فصلى بهم الجمعة، وتنقص عثمان في خطبته، فدخلت على عثمان فأخبرته بما قال فيهم، فقال: كذب والله ابن عديس، ولولا ما ذكر ما ذكرت، إني رابع أربعة في الإسلام، ولقد أنكحني رسول الله × ابنته، ثم توفيت, فأنكحني ابنته الأخرى، ولا زنيت ولا سرقت في جاهلية ولا إسلام، ولا تغنيت ولا تمنيت منذ أسلمت، ولا مسست فرجي بيميني منذ بايعت بها رسول الله ×، ولقد جمعت القرآن على عهد رسول الله ×, ولا أتت عليَّ جمعة إلا وأنا أعتق فيها رقبة منذ أسلمت إلا أن لا أجدها في تلك الجمعة، فأجمعها في الجمعة الثانية( ).
ولما رأى عثمان  إصرار المتمردين على قتله حذرهم من ذلك ومن مغبته فاطلع عليهم من كوة( ) وقال لهم: أيها الناس، لا تقتلوني واستعتبوني، فوالله لئن قتلتموني لا تقاتلوا جميعا أبدا، ولا تجاهدوا عدوا أبدا، لتختلفن حتى تصيروا هكذا، وشبك بين أصابعه.( ) وفي رواية أنه قال: أيها الناس، لا تقتلوني، فإني والٍ وأخ مسلم، فوالله إن أردت إلا الإصلاح ما استطعت، أصبت أو أخطأت، وإنكم إن تقتلوني لا تصلوا جميعا أبدا، ولا تغزوا جميعا أبدا، ولا يقسم فيئكم بينكم( ). وقال أيضا: فوالله لئن قتلوني لا يحابون بعدي أبدا، ولا يقاتلون بعدي أبدا.( ) وقد تحقق ما حذرهم منه؛ فبعد قتله وقع كل ما قاله ، وفي ذلك يقول الحسن البصري: فوالله إن صلى القوم جميعا إن قلوبهم لمختلفة.( )
رابعًا: دفاع الصحابة عن عثمان  ورفضه لذلك:
أرسل عثمان  إلى الصحابة -رضي الله عنهم- يشاورهم في أمر المحاصرين وتوعدهم إياه بالقتل، فكانت مواقفهم كالآتي:
1- علي بن أبي طالب  :
فقد أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله  أن عليا أرسل إلى عثمان فقال: إن معي خمسمائة دارع، فأذن لي فأمنعك من القوم، فإنك لم تحدث شيئا يستحل به دمك، فقال: جُزيت خيرا، ما أحب أن يهراق دم في سببي( ).
2- الزبير بن العوام :
عن أبي حبيبة( ) قال: بعثني الزبير إلى عثمان وهو محاصر فدخلت عليه في يوم صائف وهو على كرسي، وعنده الحسن بن علي، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، فقلت: بعثني إليك الزبير بن العوام وهو يقرئك السلام ويقول لك: إني على طاعتي لم أبدل ولم أنكث، فإن شئت دخلت الدار معك، وكنت رجلا من القوم، وإن شئت أقمت، فإن بني عمرو بن عوف وعدوني أن يصبحوا على بابي، ثم يمضون على ما آمرهم به، فلما سمع -يعني عثمان- الرسالة قال: الله أكبر، الحمد لله الذي عصم أخي، أقرئه السلام، ثم قل له: أحبّ إليَّ، وعسى الله أن يدفع بك عني، فلما قرأ الرسالة أبو هريرة قام فقال: ألا أخبركم ما سمعت أذناي من رسول الله ×؟ قالوا: بلى، قال: أشهد لسمعت رسول الله × يقول: «تكون بعدي فتن وأمور»، فقلنا: فأين المنجى منها يا رسول الله؟ قال: «إلى الأمين وحزبه»، وأشار إلى عثمان بن عفان، فقام الناس فقالوا: قد أمكنتنا البصائر، فأذن لنا في الجهاد؟ فقال: (أعزم على من كانت لي عليه طاعة ألا يقاتل)( ).
3- المغيرة بن شعبة :
فقد ورد أن المغيرة بن شعبة  دخل عليه وهو محاصر، فقال: إنك إمام العامة، وقد نزل بك ما ترى، وإني أعرض عليك خصالا ثلاثة اختر إحداهن: إما أن تخرج فتقاتلهم، فإن معك عددا وقوة، وأنت على الحق وهم على الباطل، وإما أن تخرق بابا سوى الباب الذي هم عليه، فتقعد على رواحلك فتلحق بمكة، فإنهم لن يستحلوك بها، وإما أن تلحق بالشام فإنهم أهل الشام وفيهم معاوية، فقال عثمان: أما أن أخرج فأقاتل فلن أكون
أول من خلف رسول الله × في أمته بسفك الدماء، وأما أن أخرج إلى مكة فإنهم لن يستحلوني, فإني سمعت رسول الله × يقول: «يلحد رجل من قريش بمكة يكون عليه نصف عذاب العالم»، ولن أكون أنا، وأما أن ألحق بالشام فإنهم أهل الشام وفيهم معاوية فلن أفارق دار هجرتي ومجاورة الرسول( ).
4- عبد الله بن الزبير :
عزم الصحابة -رضي الله عنهم- على الدفاع عن عثمان، ودخل بعضهم الدار، ولكن عثمان  عزم عليهم بشدة، وشدد عليهم في الكف عن القتال دفاعا عنه، مما حال بين رغبتهم الصادقة في الدفاع عنه وبين تحقيقها، وكان من ضمن أولئك عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، فقد قال لعثمان : قاتلهم، فوالله لقد أحل الله لك قتالهم، فقال عثمان: لا والله، لا أقاتلهم أبدا( ).
وفي رواية: يا أمير المؤمنين، إنا معك في الدار عصابة مستبصرة ينصر الله بأقل منها فأذن لنا، فقال عثمان : أنشد الله رجلا أهراق فيَّ دمه( )، ثم أمَّره على الدار، وقال: من كانت لي عليه طاعة فليطع عبد الله بن الزبير( ).
5- كعب بن مالك، وزيد بن ثابت الأنصاريان رضي الله عنهما:
حث كعب بن مالك  الأنصار على نصرة عثمان  وقال لهم: يا معشر الأنصار، كونوا أنصار الله مرتين، فجاءت الأنصار عثمان ووقفوا بابه، ودخل زيد بن ثابت  وقال له: هؤلاء الأنصار بالباب، إن شئت كنا أنصار الله مرتين.( ) فرفض القتال وقال: لا حاجة لي في ذلك، كفوا( ).
6- الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما:
وجاء الحسن بن علي رضي الله عنهما، وقال له: اخترط سيفي؟ قال له: لا أبرأ( ) الله إذًا مِنْ دمك، ولكن ثم( ) سيفك، وارجع إلى أبيك( ).
7- عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما:
ولما رأى الصحابة أن الأمر استفحل، وأن السيل بلغ الزبى( ) عزم بعضهم على الدفاع عنه دون استشارته، فدخل بعضهم الدار مستعدا للقتال، فقد كان ابن عمر معه في الدار، متقلدا سيفه لابسا درعه ليقاتل دفاعا عن عثمان ، ولكن عثمان عزم عليه أن يخرج من الدار خشية أن يتقاتل مع القوم عند دخولهم عليه فيقتل، كما لبسه مرة أخرى( ).
8- أبو هريرة :
دخل الدار على عثمان يقول: يا أمير المؤمنين، طاب أمضرب( )، فقال له: يا أبا هريرة أيسرك أن تقتل الناس جميعا وإياي؟ قال: لا، قال: فإنك والله إن قتلت رجلا واحدا فكأنما قُتِل الناس جميعا، فرجع ولم يقاتل. وفي رواية: أن أبا هريرة كان متقلدا سيفه حتى
نهاه عثمان( ).
9- سليط بن سليط:
قال: نهانا عثمان عن قتالهم، ولو أذن لنا لضربناهم حتى نخرجهم من أقطارها.( )
ويقول ابن سيرين: كان مع عثمان في الدار سبعمائة، لو يدعهم لضربوهم إن شاء الله حتى يخرجوهم من أقطارها، منهم: ابن عمر، والحسن بن علي، وعبد الله بن الزبير. ويقول أيضا: لقد قتل عثمان يوم قتل وإن الدار لغاصة، منهم ابن عمر وفيهم الحسن بن علي في عقنه السيف، ولكن عثمان عزم عليهم ألا يقاتلوا( ).
وبذلك يظهر زيف ما اتهم به الصحابة مهاجرين وأنصارا من تخاذل عن نصرة عثمان ، وكل ما روي في ذلك فإنه لا يسلم من علة إن لم تكن عللا قادحة في الإسناد والمتن جميعا( ).
10- عرض بعض الصحابة على عثمان مساعدته في الخروج إلى مكة:
ولما رأى بعض الصحابة إصرار عثمان  على رفض قتال المحاصرين، وأن المحاصرين مصرون على قتله، لم يجدوا حيلة لحمايته سوى أن يعرضوا عليه مساعدته في الخروج إلى مكة هربا من المحاصرين، فقد روى أن عبد الله بن الزبير، والمغيرة بن شعبة، وأسامة بن زيد، عرضوا عليه ذلك، وكان عرضهم متفرقا، فقد عرض كل واحد منهم عليه ذلك على حدة، وعثمان  يرفض كل هذه العروض( ).
* الأسباب التي دعت عثمان إلى منع الصحابة من القتال:
يظهر للباحثين من خلال روايات الفتنة أن هناك أسبابا خمسة هي:
1- العمل بوصية رسول الله × التي سارَّه بها، وبيَّنها عثمان  يوم الدار، وأنها عهدٌ عهد به إليه، وأنه صابر نفسه عليه( ).
2- ما جاء في قوله: لن أكون أول من خلف رسول الله × في أمته بسفك الدماء؛ أي كره أن يكون أول من خلف رسول الله × في أمته بسفك دماء المسلمين( ).
3- علمه بأن البغاة لا يريدون غيره، فكره أن يتوقى بالمؤمنين، وأحب أن
يقيهم بنفسه( ).
4- علمه بأن هذه الفتنة فيها قتله، وذلك فيما أخبره بها رسول الله × عند تبشيره إياه بالجنة على بلوى تصيبه، وأنه سيقتل مصطبرا بالحق, معطيه في فتنة، والدلالات تدل على أن أوانها قد حان، وأكد ذلك تلك الرؤيا التي رآها ليلة قتله، فقد رأى رسول الله × وقال له: «أفطر عندنا القابلة»، ففهم  أن موعد الاستشهاد قد قرب.
5- العمل بمشورة ابن سلام  له؛ إذ قال له: الكف الكف، فإنه أبلغ لك
في الحجة( ).
وتحقق إخبار النبي × بأن عثمان  سوف يقتل، وذلك فيما رواه عبد الله بن حوالة( )  عن النبي × قال: «من نجا من ثلاث فقد نجا -ثلاث مرات-: موتي، والدجال، وقتل خليفة مصطبرا بالحق معطيه» ( ).
وفيما تقدم يتبين هدوؤه في التفكير ، وأن شدة البلوى لم تحل بينه وبين ذلك التفكير الصحيح والرأي السليم، فقد تضافرت الأسباب لتحديد هذا الموقف المسالم في قتال الخارجين عليه، ولا شك أنه  كان على الحق في مواقفه التي اتخذها لما صح عن النبي × أنه أشار إلى وقوع هذه الفتنة، وشهد لعثمان وأصحابه أنهم على الحق فيها( ).
قال ابن تيمية -رحمه الله-: ومن المعلوم بالتواتر أن عثمان كان من أكف الناس عن الدماء، وأصبر الناس عمن نال من عرضه، وعلى من سعى في دمه فحاصروه وسعوا في قتله، وقد عرف إرادتهم لقتله، وقد جاء المسلمون ينصرونه ويشيرون عليه بقتالهم، وهو يأمر الناس بالكف عن القتال ويأمر من يطيعه أن لا يقاتلهم... وقيل له: تذهب إلى مكة؟ فقال: لا أكون ممن ألحد في الحرم، فقيل له: تذهب إلى الشام؟ فقال: لا أفارق دار هجرتي، فقيل له: فقاتلهم، فقال: لا أكون أول من خلف محمدا في أمته بالسيف، فكان صبر عثمان حتى قتل من أعظم فضائله عند المسلمين( ).
خامسًا: موقف أمهات المؤمنين وبعض الصحابيات:
1- أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنهما:
كان موقف السيدة أم حبيبة أم المؤمنين من المواقف البالغة الخطر في هذه الأحداث، وهو موقف كان من الخطورة بحيث كادت -رضي الله عنها- أن تقتل فيه، ذلك أنه
لما حوصر عثمان  ومنع عنه الماء، سرَّح عثمان ابنا لعمرو بن حزم الأنصاري - من جيران عثمان - إلى علي بأنهم قد منعونا الماء، فإن قدرتم أن ترسلوا إلينا شيئا من
الماء فافعلوا، وإلى طلحة وإلى الزبير وإلى عائشة وأزواج النبي ×، فكان أولهم إنجادا له علي وأم حبيبة.( ) وكانت أم حبيبة معنية بعثمان، كما قال ابن عساكر، وكان هذا طبيعيا منها؛ حيث النسب الأموي الواحد، جاءت أم حبيبة، فضربوا وجه بغلتها، فقالت: إن وصايا بني أمية إلى هذا الرجل، فأحببت أن ألقاه فأسأله عن ذلك كيلا تهلك أموال أيتام وأرامل، قالوا: كاذبة، وأهووا لها وقطعوا حبل البغلة بالسيف فندت( ) بأم حبيبة فتلقاها الناس وقد مالت راحلتها، فتعلقوا بها، وأخذوها وقد كادت تقتل، فذهبوا بها إلى بيتها.( ) ويبدو أنها -رضي الله عنها- أمرت ابن الجراح مولاها أن يلزم عثمان ، فقد حدثت أحداث الدار، وكان ابن الجراح حاضرا( ).
2- صفية زوجة رسول الله ×:
وما فعلته السيدة أم حبيبة فعلت مثله السيدة صفية رضي الله عنها؛ فلقد روي عن كنانة( ) قال: كنت أقود بصفية لتردَّ عن عثمان، فلقيها الأشتر( )، فضرب وجه بغلتها حتى مالت، فقالت: ذروني لا يفضحني هذا، ثم وضعت خشبا من منزلها إلى منزل عثمان تنقل عليه الطعام والماء( ).
3- عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها:
ولما حدث ما حدث للسيدة أم حبيبة أعظمه الناس جدا، فخرجت عائشة -رضي الله عنها- من المدينة وهي ممتلئة غيظا على المتمردين، وجاءها مروان بن الحكم، فقال: أم المؤمنين، لو أقمت كان أجدر أن يراقبوا هذا الرجل، فقالت: أتريد أن يصنع بي كما صنع بأم حبيبة، ثم لا أجد من يمنعني، لا والله لا أُعَيَّر( ), ولا أدري إلام يسلم أمر هؤلاء.( ) ورأت -رضي الله عنها- أن خروجها ربما كان معينا في فض هذه الجموع، كما سيتضح من الرواية الآتية بعد، وتجهزت أمهات المؤمنين إلى الحج هربا من الفتنة، على أن خروجهن لم يكن تنزها عن ملابسات الفتنة وحسب، ولم يكن هربا محضا، وإنما كان محاولة منهن لتخليص عثمان  من أيدي هؤلاء المفتونين، الذين كان منهم محمد بن أبي بكر، أخو السيدة عائشة رضي الله عنها، الذي حاولت أن تستتبعه معها إلى الحج فأبى، ولقد دلل على هذه المحاولة منها أن استتباعها له ورفضه كانا لافتين للنظر حتى إن حنظلة الكاتب( ) قد هاله رفض محمد لأن يتبع أم المؤمنين، وقارن بين هذا الرفض وبين متابعته لأهل الأمصار، قائلا: يا محمد، تدعوك أم المؤمنين فلا تتبعها، وتدعوك ذؤبان( ) العرب إلى ما لا يحل فتتبعهم، فأبى، فقالت السيدة عائشة: أما والله لو استطعت أن يحرمهم الله ما يجولون لأفعلن.( ) وهذا القول منها بعدما حاولته مع أخيها، دليل على أنها قد بدأت محاولتها لفض الثائرين عن عثمان، ولإثارة الرأي العام عليهم منذ بدأ تفكيرهم في الذهاب إلى مكة، وهذا هو ما أكد عليه الإمام ابن العربي، قال: إنه يروي أن تغيبهم - تغيب أمهات المؤمنين مع عدد من الصحابة - كان قطعا للشغب بين الناس رجاء أن يرجع الناس إلى أمهاتهم، وأمهات المؤمنين، فيرعوا حرمة نبيهم( )، ويستمعوا إلى كلمتهن التي طالما كانوا يقصدونها في كل الآفاق( ). أي أن خروجهم كان نوعا من التفريق لهذه الجموع؛ حيث كان معروفا عند الناس التماس رأيهن وفتاواهن، وكن -رضوان الله عليهن- لا يتصورن أن يصل الأمر بهؤلاء الناس إلى قتل الخليفة ( ).
4- مواقف للصحابيات:
أ- وقد حاولت أسماء بنت عميس نفس المحاولة التي حاولتها أم المؤمنين عائشة، فبعثت إلى ابنيها محمد بن أبي بكر، ومحمد بن جعفر( ) فقالت: إن المصباح يأكل نفسه ويضيء للناس، فلا تأثما في أمر تسوقانه إلى من لا يأثم فيكما، فإن هذا الأمر الذي تحاولون اليوم لغيركم غدا، فاتقوا أن يكون عملكم اليوم حسرة عليكم، فلجَّا وخرجا مغضبين يقولان: لا ننسى ما صنع بنا عثمان، وتقول: ما صنع بكما، ألا ألزمكما الله.( ) وقيل الحديث كان بين ليلى بنت أسماء وأخويها( ).
وهي في ذلك تشير إلى أنه لما جاء أهل الأمصار، وكروا راجعين إلى المدينة بعدما كانوا ناظروا عثمان  فناظرهم، وأقام عليهم الحجة، فأظهروا أنهم راجعون إلى بلادهم، ثم ما لبثوا أن عادوا بدعوى أن عثمان  بعث رسلا في قتل أناس كان منهم -حسب دعواهم- محمد بن أبي بكر( )، ولعل هذا هو ما يشير إليه محمد بن أبي بكر في قوله: لا ننسى ما صنع بنا عثمان، وقد نفى عثمان  نسبة هذا الكتاب إليه وقال: إما أن تقيموا شاهدين عليَّ بذلك وإلا فيميني أني ما كتبت ولا أمرت، وقد يكتب على لسان الرجل ويضرب على خطه وينقش على خاتمه( ).
لقد كانت السيدة أسماء -رضي الله عنها- واعية بما يجري من تدبير خفي لزعزعة أحوال المسلمين، وتنحية عثمان  عن الخلافة، وهكذا فإن موقفها -رضي الله عنها- من ابنيها, ووضوح الأمر عندها على هذا النحو الذي جعلها لا تتأثر في مقام الأمومة، ولا تبدو إلا محقة للحق في هذا الموقف الواضح، هذا الموقف لا يستهان به ولا شك، وهو يعد صورة جلية لعدالة هؤلاء الصحابة الكرام( ).
ب- الصعبة بنت الحضرمي:
ولما اشتد حصار عثمان  طلبت الصعبة بنت الحضرمي من ابنها طلحة بن عبيد الله أن يكلم عثمان كي يردعه عن إصراره على إسلامه نفسه دون مدافعة من الصحابة، واستنصار بأهل الأمصار، فقد خرجت الصعبة بنت الحضرمي وقالت لابنها طلحة بن عبيد الله: إن عثمان اشتد حصره، فلو كلمته حتى تردعه.( ) والرواية يبدو منها إشفاق الصعبة على عثمان ، كما يبدو منها كذلك عناية أم عبد الله بن رافع بالأمر، ومتابعتها لما يجري من أحداث الفتنة( )، وهي التي روت عن الصعبة بنت الحضرمي الحادثة( ).
هذا هو الموقف العام لنساء المسلمين، فقد كان موقفا معتدلا وقادرا على النظر السليم في المسألة، رغم الغيوم التي كانت ملتبسة بها، وهو على كل حال كان هذا موقف الصحابة جميعا رضي الله عنهم وأرضاهم( ).
سادسًا: من حج بالناس ذلك العام؟ وهل طلب عثمان من الولاة نصرته؟
1- من حج بالناس ذلك العام (35 هـ)؟
استدعى عثمان عبد الله بن عباس رضي الله عنهم، وكلفه أن يحج بالناس هذا الموسم، فقال له ابن عباس: دعني أكن معك وبجانبك يا أمير المؤمنين في مواجهة هؤلاء، فوالله إن جهاد هؤلاء الخوارج أحبَّ إليَّ من الحج، قال له: عزمت عليك أن تحج بالمسلمين، فلم يجد ابن عباس أمامه إلا أن يطيع أمير المؤمنين، وكتب عثمان كتابا مع ابن عباس ليقرأ على المسلمين في الحج، بيَّن فيه قصته مع الخوارج عليه، وموقفه منهم، وطلباتهم منه ( ). وهذا نص خطاب عثمان  للمسلمين في موسم الحج عام 35 هـ: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عثمان أمير المؤمنين إلى المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم، فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإني أذكركم بالله -جل وعز- الذي أنعم عليكم وعلمكم الإسلام، وهداكم من الضلالة، وأنقذكم من الكفر، وأراكم البينات، وأوسع عليكم من الرزق ونصركم على العدو، وأسبغ عليكم نعمته، فإن الله -عز وجل- يقول وقوله الحق: +وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ" [إبراهيم: 34]، وقال عز وجل: +يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ  وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ  وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ  وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ" [آل عمران: 102-105]، وقال وقوله الحق: +وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ" [المائدة: 7]، وقال وقوله الحق: +يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ  وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ  فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ" [الحجرات: 6-8]، وقوله عز وجل: +إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآَخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" [آل عمران: 77]، وقال وقوله الحق: +فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لأَنْفُسِكُمْ وَمَن يُّوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [التغابن: 16]، وقال وقوله الحق: +وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ  وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ  وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ  وَلاَ تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ  وَلاَ تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلاً إِنَّمَا عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ  مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" [النحل: 91- 96]. وقال وقوله الحق: +يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً" [النساء: 59]. وقال وقوله الحق: +وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" [النور: 55]. وقال وقوله الحق: +إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا" [الفتح: 10].
أما بعد، فإن الله -عز وجل- رضي لكم السمع والطاعة والجماعة، وحذركم المعصية والفرقة والاختلاف، ونبأكم ما قد فعله الذين من قبلكم، وتقدم إليكم فيه ليكون له الحجة عليكم، إن عصيتموه فاقبلوا نصيحة الله -عز وجل- واحذروا عذابه، فإنكم لن تجدوا أمة هلكت إلا من بعد أن تختلف، إلا أن يكون لها رأس يجمعها، ومتى ما تفعلوا ذلك لا تقيموا الصلاة جميعا، وسلط عليكم عدوكم، ويستحل بعضكم حرمة بعض، ومتى يفعل ذلك لا يقم لله سبحانه دين، وتكونوا شيئا، وقد قال الله -جل وعز- لرسوله ×: +إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ" [الأنعام: 159] وإني أوصيكم بما أوصاكم الله وأحذركم عذابه، فإن شعيبا × قال لقومه:
+وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنْكُم بِبَعِيدٍ  وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ" [هود: 89، 90].
أما بعد، فإن أقواما مما كان يقول في هذا الحديث، أظهروا للناس أنما يدعون إلى كتاب الله -عز وجل- والحق ولا يريدون الدنيا ولا منازعة فيها، فلما عرض عليهم الحق إذ الناس في ذلك شتى؛ منهم آخذ للحق ونازع عنه حين يعطاه، ومنهم تارك للحق ونازل عنه في الأمر يريد أن يبتزه بغير الحق، طال عليهم عمري، وراث( ) عليهم الإمرة, فاستعجلوا القدر، وقد كتبوا إليكم أنهم قد رجعوا بالذي أعطيتهم، ولا أعلم أني تركت من الذي عاهدتهم عليه شيئا، كانوا زعموا أنهم يطلبون الحدود، فقلت: أقيموها على من علمتم تعداها في أحد، أقيموها على من ظلمكم من قريب أو بعيد، قالوا: كتاب الله يتلى، فقلت: فليتله من تلاه غير غال فيه بغير ما أنزل الله في الكتاب، وقالوا: المحروم يرزق، والمال يوفى ليستن فيه السنة الحسنة، ولا يعتدى في الخمس ولا في الصدقة، ويؤمَّر ذو القوة والأمانة، وترد مظالم الناس إلى أهلها، فرضيت بذلك واصطبرت له،... كتبت إليكم وأصحابي الذين زعموا في الأمر استعجلوا القدر ومنعوا مني الصلاة، وحالوا بيني وبين المسجد، وابتزوا ما قدروا عليه بالمدينة. كتبت إليكم كتابي هذا، وهم يخبرونني إحدى ثلاث: إما يقيدونني بكل رجل أصبته خطأ أو صوابا، غير متروك منه شيء، وإما أعتزل الأمر فيؤمِّرون آخر غيري، وإما يرسلون إلى من أطاعهم من الأجناد وأهل المدينة فيتبرؤون من الذي جعل الله سبحانه عليهم من السمع والطاعة، فقلت لهم: أما إقادتي من نفسي فقد كان من قبلي خلفاء تخطئ وتصيب فلم يُسْتقد( ) من أحد منهم، وقد علمت أنما يريدون نفسي، وأما أن أتبرأ من الإمارة فأن يكلبوني( ) أحب إليَّ من أن أتبرأ من عمل الله -عز وجل- وخلافته، وأما قولكم: يرسلون إلى الأجناد وأهل المدينة فيتبرؤون من طاعتي فلست عليكم بوكيل, ولم أكن استكرهتهم من قبل على السمع والطاعة، ولكن أتوها طائعين، يبتغون مرضاة الله -عز وجل- وإصلاح ذات البين، ومن يكن منكم يبتغي الدنيا فليس بنائل منها إلا ما كتب الله عز وجل له، ومن يكن إنما يريد وجه الله والدار الآخرة وصلاح الأمة وابتغاء مرضاة الله -عز وجل- والسنة الحسنة التي استن بها رسول الله × والخليفتان من بعده رضي الله عنهما، فإنما يجزي بذلكم الله وليس بيدي جزاؤكم، ولو أعطيتكم الدنيا كلها لم يكن في ذلك ثمن لدينكم، ولم يغن عنكم شيئا، فاتقوا الله واحتسبوا ما عنده، فمن يرض بالنّكث منكم فإني لا أرضاه له، ولا يرضى الله سبحانه أن تنكثوا عهده، وأما الذي يخيرونني فإنما كله النزع والتأمير، فملكت نفسي ومن معي، ونظرت حكم الله وتغيير النعمة من الله سبحانه، وكرهت سنة السوء، وشقاق الأمة وسفك الدماء، فإني أنشدكم بالله وبالإسلام ألا تأخذوا إلا الحق وتعطوه مني, وترك البغي على أهله، وخذوا بيننا بالعدل كما أمركم الله عز وجل، فإني أنشدكم الله سبحانه الذي جعل عليكم العهد والمؤازرة في أمر الله، فإن الله سبحانه قال وقوله الحق: +وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً" [الإسراء: 34] فإن هذه معذرة إلى الله ولعلكم تذكرون. أما بعد، فإنني لا أبرئ نفسي +وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ" [يوسف: 53] وإن عاقبت أقواما فما أبتغي بذلك إلا الخير، وإني أتوب إلى الله -عز وجل- من كل عمل عملته، وأستغفره إنه لا يغفر الذنوب إلا هو، إن رحمة ربي وسعت كل شيء، إنه لا يقنط من رحمة الله إلا القوم الضالون، وإنه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، وأنا أسأل الله -عز وجل- أن يغفر لي ولكم، وأن يؤلف قلوب هذه الأمة على الخير، ويُكَرِّه إليها الفسق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته أيها المؤمنون والمسلمون). قال ابن عباس: فقرأت هذا الكتاب عليهم قبل التروية( ) بمكة بيوم.

2- هل طلب عثمان  من الولاة نصرته:
يزعم سيف بن عمر في روايته عند الطبري أن عثمان لما حصر كتب إلى عماله على الأمصار يستمدهم، فبعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهري على رأس جيش، وكذا فعل عبد الله بن سعد في مصر، فأرسل معاوية بن حديج، وخرج من أهل الكوفة القعقاع بن عمرو على رأس قواته.( ) وهذا الزعم لا يتفق مع منهج عثمان في مواجهة الفتنة من إيثار العافية والكف، ولا يتفق مع تيقنه بالقتل، ولا يتفق مع ما لجأ إليه من صرف المدافعين عنه من كبار الصحابة وأبنائهم، بل عبيده ومواليه الذين نهاهم أشد النهي عن القتال، بل جعل العتق نصيب من يكف يده منهم ولا يقاتل كما سوف نرى. ولكن الذي يمكن تصوره هو أنه كما بادر جماعة من الصحابة إلى الدفاع عن عثمان دون أن يطلب منهم ذلك ورغم محاولاته العديدة لصرفهم، فإنه قد بادرت جماعات كثيفة من أجناد المسلمين في الأمصار للدفاع عن الخليفة المظلوم من تلقاء أنفسهم وتوجيه من أمرائهم، ولا يصح أن نظن أن رجلا مثل معاوية في قرابته من عثمان كان سيسعه - لو أراد- أن يتقاعس عن السير إليه أو تسيير الجنود إليه، ولا يمكن أن نفترض أن رجالا مثل أنصار عثمان بمصر - وعلى رأسهم معاوية بن حديج ومسلمة بن مخلد وغيرهما من أبطال المسلمين- كانوا سينتظرون قابعين حتى يقتل الخليفة ثم يتحركون للثأر له، ويعرضون نحورهم للقتل في سبيله، بل الذي يمكن تصوره وافتراضه أن جنودا من الأمصار قد تحركت بالفعل نحو المدينة لنجدة الخليفة دون أن يطلب منها نجدته( ).
3- آخر خطبة خطبها عثمان  :
كان آخر لقاء عام لعثمان مع المسلمين بعد أسابيع من الحصار؛ حيث دعا الناس، فاجتمعوا له جميعا، المحارب الطارئ من السبئيين، والمسالم المقيم من أهل المدينة، وكان في مقدمة القادمين: علي وطلحة والزبير، فلما جلسوا أمامه قال لهم: إن الله -عز وجل- إنما أعطاكم الدنيا لتطلبوا بها الآخرة، ولم يعطكم الدنيا لتركنوا إليها، وإن الدنيا تفنى والآخرة تبقى، فلا تبطرنكم الفانية ولا تشغلنكم عن الباقية، وآثروا ما يبقى على ما يفنى، فإن الدنيا منقطعة، وإن المصير إلى الله، واتقوا الله عز وجل، فإن تقواه جُنَّة ووقاية من بأسه وانتقامه، والزموا جماعتكم ولا تصيروا أحزابا، قال تعالى: +وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" [آل عمران: 103]. ثم قال للمسلمين: يا أهل المدينة: إني أستودعكم الله، وأسأله أن يحسن عليكم الخلافة من بعدي، وإني والله لا أدخل على أحد بعد يومي هذا، حتى يقضى الله فيَّ قضاءه، ولأدعَنَّ هؤلاء الخوارج وراء بابي، ولا أعطيهم شيئا يتخذونه عليكم دَخَلا في دين أو دنيا، حتى يكون الله هو الصانع في ذلك ما أحب، وأمر أهل المدينة بالرجوع وأقسم عليهم، فرجعوا إلا الحسن ومحمد وابن الزبير وأشباهًا لهم، فجلسوا على باب عثمان عن أمر آبائهم، وثاب إليهم ناس كثير، ولزم عثمان الدار( ) حتى أتاه أجله.
سابعًا: استشهاد عثمان :
وفضلا عن تحرك جيوش الأمصار منها لنجدة الخليفة، فقد كانت أيام الحج تنقضي سريعا وتوشك جماعات من هؤلاء أن تزحف إلى المدينة لنجدة الخليفة، وبخاصة مع وجود عبد الله بن عباس وعائشة وغيرهما من المدافعين عن عثمان، وقدمت الأخبار إلى المتمردين بأن أهل الموسم يريدون نصرة عثمان، فلما أتاهم ذلك مع ما بلغهم من نفور أهل الأمصار إليهم أعلقهم( ) الشيطان وقالوا: لا يخرجنا مما وقعنا فيه إلا قتل هذا الرجل، فيشتغل بذلك الناس عنا( ).
1- آخر أيام الحصار وفيه الرؤيا:
وفي آخر أيام الحصار - وهو اليوم الذي قتل فيه- نام  فأصبح يحدِّث الناس: ليقتلني القوم( )، ثم قال: رأيت النبي × في المنام، ومعه أبو بكر وعمر، فقال النبي ×: يا عثمان أفطر عندنا، فأصبح صائما وقتل من يومه( ).
2- صفة قتله:
هاجم المتمردون الدار فتصدى لهم الحسن بن علي وعبد الله بن الزبير ومحمد بن طلحة ومروان بن الحكم وسعيد بن العاص، ومن كان من أبناء الصحابة أقام معهم، فنشب القتال فناداهم عثمان: الله الله، أنتم في حل من نصرتي، فأبوا، ودخل غلمان عثمان لينصروه، فأمرهم ألا يفعلوا؛ بل إنه أعلن أنه من كف يده منهم فهو حر.( ) وقال عثمان في وضوح وإصرار وحسم، وهو الخليفة الذي تجب طاعته: أعزم على كل من رأى أن عليه سمعا وطاعة إلا كف يده وسلاحه.( ) ولا تبرير لذلك إلا بأن عثمان كان واثقا من استشهاده بشهادة النبي × له بذلك، ولذلك أراد ألا تراق بسببه الدماء، وتقوم بسببه فتنة بين المسلمين.( ) وكان المغيرة بن الأخنس بن شريق فيمن حج ثم تعجل في نفر حجوا معه، فأدرك عثمان قبل أن يقتل، ودخل الدار يحمي عنه وقال: ما عذرنا عند الله إن تركناك ونحن نستطيع ألا ندعهم حتى نموت؟ فأقدم المتمردون على حرق الباب والسقيفة، فثار أهل الدار -وعثمان يصلي- حتى منعوهم، وقاتل المغيرة بن الأخنس والحسن بن علي ومحمد بن طلحة وسعيد بن العاص، ومروان بن الحكم وأبو هريرة، فأبلوا أحسن البلاء وعثمان يرسل إليهم في الانصراف دون قتال، ثم ينتقل إلى صلاته، فاستفتح قوله تعالى: +طه  مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى  إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَّخْشَى" [طه: 1-3] وكان سريع القراءة، فما أزعجه ما سمع، ومضى في قراءته ما يخطئ وما يتعتع، حتى إذا أتى إلى نهايتها قبل أن يصلوا إليه ثم دعا فجلس وقرأ: +قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ" [آل عمران: 137].
وأصيب يومئذ أربعة من شبان قريش وهم: الحسن بن علي، وعبد الله بن الزبير، ومحمد بن حاطب، ومروان بن الحكم( ), وقتل المغيرة بن الأخنس، ونيار بن عبد الله الأسلمي( )، وزياد الفهري، واستطاع عثمان أن يقنع المدافعين عنه، وألزمهم بالخروج من الدار، وخلى بينه وبين المحاصرين، فلم يبق في الدار إلا عثمان وآله، وليس بينه وبين المحاصرين مدافع ولا حام من الناس، وفتح  باب الدار( ).
وبعد أن خرج من في الدار ممن كان يريد الدفاع عنه، نشر  المصحف بين يديه، وأخذ يقرأ منه وكان إذ ذاك صائما، فإذا برجل من المحاصرين لم تسمه الروايات يدخل عليه، فلما رآه عثمان  قال له: بيني وبينك كتاب الله( ), فخرج الرجل وتركه، وما إن ولى حتى دخل آخر، وهو رجل من بني سدوس، يقال له: الموت الأسود، فخنقه وخنقه قبل أن يضرب بالسيف، فقال: والله ما رأيت شيئا ألين من خنقه، لقد خنقته حتى رأيت نفسه مثل الجان( ) تردد في جسده، ثم أهوى إليه بالسيف، فاتقاه عثمان  بيده فقطعها، فقال عثمان: أما والله إنها لأول كف خطت المفصَّل( )؛ وذلك أنه كان من كتبة الوحي، وهو أول من كتب المصحف من إملاء رسول الله ×، فقتل  والمصحف بين يديه، وعلى أثر قطع اليد انتضح الدم على المصحف الذي كان بين يديه يقرأ منه، وسقط على قوله تعالى:
+فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ"( ) [البقرة: 137].
وفي رواية: إن أول من ضربه رجل يسمى رومان اليماني، ضربه بصولجان، ولما دخلوا عليه ليقتلوه أنشد قائلا:
أرى الموت لا يبقى عزيزا ولم يدع
لعاد ملاذا في البلاد ومرتقى

وقال أيضا:
يبيت أهل الحصن والحصن مغلق
ويأتي الجبال في شماريخها( ) العلي( )

ولما أحاطوا به قالت امرأته نائلة بنت الفرافصة: إن تقتلوه أو تدعوه فقد كان يحيى الليل بركعة يجمع فيها القرآن.( ) وقد دافعت نائلة عن زوجها عثمان وانكبت عليه واتقت السيف بيدها, فتعمدها سودان بن حمران ونضح أصابعها فقطع أصابع يدها، وولت،
فغمز أوراكها( ).
ولما رأى أحد غلمان عثمان الأمر، راعه قتل عثمان، وكان يسمى (نجيح) فهجم نجيح على سودان بن حمران فقتله، ولما رأى قتيرة بن فلان السكوني نجيحا قد قتل سودان، هجم على نجيح فقتله، وهجم غلام آخر لعثمان اسمه (صبيح) على قتيرة بن فلان فقتله، فصار في البيت أربعة قتلى شهيدان، ومجرمان، أما الشهيدان: فعثمان وغلامه نجيح، وأما المجرمان فسودان وقتيرة السكونيان، ولما تم قتل عثمان  نادى منادٍ القوم السبئيين قائلا: إنه لم يحل لنا دم الرجل ويحرم علينا ماله، ألا إن ماله حلال لنا، فانهبوا ما في البيت، فعاث رعاع السبئيين في البيت فسادا، ونهبوا كل ما في البيت، حتى نهبوا ما على النساء، وهجم أحد السبئيين ويدعى كلثوم التجيبي على امرأة عثمان (نائلة) ونهب الملاءة التي عليها، ثم غمز وركها، وقال لها: ويح أمك من عجيزة ما أتمك، فرآه غلام عثمان (صبيح) وسمعه وهو يتكلم في حق نائلة هذا الكلام الفاحش، فعلاه بالسيف فقتله( )، وهجم أحد السبئيين على الغلام فقتله، وبعدما أتم السبئيون نهب دار عثمان، تنادوا وقالوا: أدركوا بيت المال، وإياكم أن يسبقكم أحد إليه، وخذوا ما فيه، وسمع حراس بيت المال أصواتهم، ولم يكن فيه إلا غرارتان من طعام فقالوا: انجوا بأنفسكم، فإن القوم يريدون الدنيا، واقتحم السبئيون بيت المال وانتهبوا ما فيه( ).
حقق الخوارج السبئيون مرادهم، وقتلوا أمير المؤمنين، وتوقف كثير من أتباعهم من الرعاع والغوغاء بعد قتل عثمان ليفكروا, وما كانوا يظنون أن الأمر سينتهي بهم إلى قتله، لقد استغفلهم شياطينهم السبئيون، واستغلوهم في الشغب على عثمان، أما أن يقتلوه فهذا ما استفظعوه واستشنعوه، وسقط في أيدي هؤلاء الغوغاء، وحصل لهم كما حصل لبني إسرائيل لما عبدوا العجل، ندم بعضهم، كما قال الله تعالى: +وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ  وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ"( ) [الأعراف: 148، 149] وحزن الصالحون في المدينة لمقتل خليفتهم، وصاروا يسترجعون ويبكون، لكن ماذا يفعلون وجيوش الخوارج السبئيين تحتل المدينة، وتعيث فيها فسادا، وتمنع أهلها من فعل أي شيء؟ وكان الحاكم الفعلي للمدينة هو أمير خوارج مصر (الغافقي بن حرب العكي)، وكان معهم شيطانهم المخطط (عبد الله بن سبأ) وهو فرح مسرور لما وصل إليه من أهداف ومآرب يهودية شيطانية.
وعلق كبار الصحابة على مقتل عثمان ( ) :
أ- الزبير بن العوم : لما علم بمقتل عثمان قال: رحم الله عثمان، إنا لله وإنا إليه راجعون، فقيل له: إن القوم نادمون، فقال: دبروا ودبروا، ولكن كما قال الله تعالى: +وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ" [سبأ: 54].
ب- طلحة بن عبيد الله : لما علم بمقتل عثمان قال: رحم الله عثمان، إنا لله وإنا إليه راجعون، فقيل له: إن القوم نادمون قال: تبًّا لهم، وقرأ قوله تعالى: +مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ  فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ" [يس: 49، 50].
ج- علي بن أبي طالب : لما علم بمقتل عثمان قال: رحم الله عثمان، إنا لله وإنا إليه راجعون، قيل له: إن القوم نادمون، فقرأ قوله تعالى: +كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ  فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ" [الحشر: 16، 17].
د- سعد بن أبي وقاص : ولما علم سعد بذلك قال: رحم الله عثمان، ثم تلا قوله تعالى: +قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً  الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا  أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا  ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا" [الكهف: 103-106] ثم قال سعد: اللهم اندمهم واخزهم واخذلهم، ثم خذهم.( ) واستجاب الله دعوة سعد -وكان مستجاب الدعوة- فقد أخذ كل من شارك في قتل عثمان، مثل عبد الله بن سبأ، والغافقي والأشتر، وحكيم بن جبلة، وكنانة التجيبي، حيث قتلوا فيما بعد( ).
ثامنًا: تاريخ قتله، وسنه عند استشهاده, وجنازته والصلاة عليه ودفنه:
1- تاريخ قتله:
إن في تحديد السنة التي قتل فيها عثمان  شبه إجماع من المؤرخين، فلم يقع خلاف في أنه كان في السنة الخامسة بعد الثلاثين من الهجرة، إلا ما روي عن مصعب بن عبد الله من أنه كان من السنة السادسة والثلاثين( )، وهو قول شاذ مخالف للإجماع، فمن قال بالقول الأول جمع غفير منهم: عبد الله بن عمرو بن عثمان، وعامر بن شرحبيل الشعبي، ونافع مولى ابن عمر، ومخرمة بن سليمان، وغيرهم كثير.( ) ولم يختلف المؤرخون في الشهر الذي قتل فيه وأنه ذو الحجة، إلا أنه اختلف في تحديد ما بعد ذلك من اليوم والساعة، والذي ترجح لديَّ من أقوال العلماء الكثيرة أنه استشهد في (18/12/35هـ). ( ) وأما عن تحديد اليوم الذي قتل فيه من أيام الأسبوع ففيه ثلاثة أقوال، والذي ترجح لدي من هذه الأقوال قول الجمهور، وهو يوم الجمعة؛ لأنه قول الجمهور ولا يخالفه قول أقوى منه.( ) وكان وقت قتله صبيحة يوم الجمعة، وهو ما ذهب إليه الجمهور، ولم يخالف بأقوى منه( ).
2- سنه عند استشهاده:
اضطربت الروايات في سنه عند استشهاده والخلاف في ذلك قديم، حتى إن الطبري -رحمه الله- يقول: اختلف السلف قبلنا في قدر مدة حياته( )، والذي أميل إليه أنه توفي وسنه اثنتان وثمانون (82 سنة)، وهو قول الجمهور، ويترجح هذا القول لعدة أسباب، منها:
أ- أن نتيجة مقارنة سنة ولادته مع سنة استشهاده تؤيد هذا القول؛ فإنه ولد في السنة السادسة بعد عام الفيل، واستشهد في السنة الخامسة والثلاثين بعد الهجرة، فطرح تاريخ مولده من تاريخ استشهاده يتبين لنا سنه عند استشهاده.
ب- إنه قول الجمهور ولم يخالفه قول أقوى منه( ).
3- جنازته والصلاة عليه ودفنه:
قام نفر من الصحابة في يوم قتله بغسله وكفنوه وحملوه على باب، ومنهم: حكيم بن حزام، وحويطب بن عبد العزى، وأبو الجهم بن حذيفة، ونيار بن مكرم الأسلمي، وجبير ابن مطعم، والزبير بن العوام، وعلي بن أبي طالب، وجماعة من أصحابه ونسائه، منهن امرأتاه نائلة وأم البنين بنت عتبة بن حصين، وصبيان، وصلى عليه جبير بن مطعم، وقيل: الزبير بن العوام، وقيل: حكيم بن حزام، وقيل: مروان بن الحكم، وقيل: المسور بن مخرمة( )، والذي ترجح عندي أن الذي صلى عليه الزبير بن العوام لرواية الإمام أحمد في مسنده؛ فقد بينت تلك الرواية أن الزبير بن العوام  صلى على عثمان ودفنه, وكان أوصى إليه.( ) وقد دفن  ليلا، وقد أكد ذلك ما رواه ابن سعد والذهبي؛ حيث ذكرا أنه دفن بين المغرب والعشاء( ), رضوان الله عليه، وأما ما رواه الطبراني من طريق عبد الملك بن الماجشون قال: سمعت مالكا يقول: قتل عثمان  فأقام مطروحا على كناسة بني فلان ثلاثا( )، فالرواية السابقة ضعيف سندها، وباطل متنها، فأما السند ففيه علتان:
أ- ضعف عبد الملك بن الماجشون الذي كان يروي المناكير عن الإمام مالك.
ب- أن هذه الرواية مرسلة؛ حيث إن الإمام مالكا لم يدرك مقتل عثمان ، لأنه لم يولد إلا سنة 93هـ( ).
وأما متن هذه الرواية فباطل، وفيه يقول ابن حزم: من قال إنه  أقام مطروحا على مزبلة ثلاثة أيام فكذب بحت، وإفك موضوع، وتوليد من لا حياء في وجهه، ولقد أمر رسول الله × برمي أجساد قتلى الكفار من قريش يوم بدر في القليب, وألقى التراب عليهم وهم شر خلق الله تعالى، وأمر عليه السلام أن يحفر أخاديد لقتلى يهود قريظة، وهم شر من وارته الأرض، فمواراة المؤمن والكافر فرض على المسلمين، فكيف يجوز لذي حياء في وجهه أن ينسب إلى علي وهو الإمام, ومن بالمدينة من الصحابة أنهم تركوا رجلا ميتا بين أظهرهم على مزبلة ثلاثة أيام لا يوارونه( ).
إنه لا يدخل في عقل أي إنسان سليم من داء الرفض أنهم يتركون إمامهم ملقى دون دفن ثلاثة أيام، مهما كانت قوة أولئك الفجرة الذين جاءوا لحصاره وقتله، فالصحابة كما وصفهم ربهم لا يخافون في الله لومة لائم، وإنما تلك الروايات التي شوهت كتب التاريخ من دس الروافض( ).
4- براءة محمد بن أبي بكر الصديق من دم عثمان :
إن قاتل عثمان  رجل مصري، لم تفصح الروايات عن اسمه، وبينت أنه سدوسي الأصل، أسود البشرة، لقب بـ (جبلة) لسواد بشرته، كما لقب أيضا بـ (الموت الأسود)، وذهب محب الدين الخطيب إلى أن القاتل: هو عبد الله بن سبأ حيث قال: ومن الثابت أن ابن سبأ كان مع ثوار مصر عند مجيئهم من الفسطاط إلى المدينة، وهو في كل الأدوار التي مثلها كان شديد الحرص على أن يعمل من وراء ستار، فلعل (الموت الأسود) اسم مستعار له أراد أن يرمز به إليه ليتمكن من مواصلة دسائسه لهدم الإسلام.( ) وقد يشهد له: أن ابن سبأ أسود البشرة، فقد صح عن علي  أنه وصفه بالخبث وسواد البشرة، وذلك في قوله: الخبيث الأسود( ).
وأما ما يتعلق بتهمة محمد بن أبي بكر بقتل عثمان بمشاقصه، فهذا باطل، وقد جاءت روايات ضعيفة في ذلك، كما أن متونها شاذة لمخالفتها للرواية الصحيحة التي تبين أن القاتل هو رجل مصري.( ) وقد ذكر الدكتور يحيى اليحيى عدة أسباب ترجح براءة محمد بن أبي بكر من دم عثمان، منها:
أ- أن عائشة -رضي الله عنها- خرجت إلى البصرة للمطالبة بقتلة عثمان، ولو كان أخوها منهم ما حزنت عليه لما قتل فيما بعد، وسيأتي تفصيله عند حديثنا عن علي بن أبي طالب  بإذن الله تعالى.
ب- لعن علي  لقتلة عثمان  وتبرؤه منهم، يقتضي عدم تقريبهم وتوليتهم، وقد ولي محمد بن أبي بكر مصر، فلو كان منهم ما فعل ذلك.
ج- ما أخرجه ابن عساكر بسنده عن محمد بن طلحة بن مصرف قال: سمعت كنانة مولى صفية بنت حيي قال: شهدت مقتل عثمان وأنا ابن أربع عشرة سنة، قالت: هل أندى محمد بن أبي بكر بشيء من دمه؟ فقال: معاذ الله، دخل عليه، فقال عثمان: يا ابن أخي لست بصاحبي فخرج، ولم يند من دمه بشيء( ).
ويشهد لهذا ما أخرجه خليفة بن خياط والطبري بإسناد رجال ثقات عن الحسن البصري -وكان ممن حضر يوم الدار( ) - أن ابن أبي بكر أخذ بلحيته، فقال عثمان: لقد أخذت مني مأخذا أو قعدت مني مقعدا، ما كان أبوك ليقعده فخرج وتركه( ).
وبهذا يتبين لنا براءة محمد بن أبي بكر الصديق من دم عثمان، براءة الذئب
من دم يوسف، كما تبين أن سبب تهمته هو دخوله قبل القتل.( ) وقد ذكر ابن كثير -رحمه الله- أنه لما كلمه عثمان  استحى، ورجع، وتندم، وغطى وجهه، وحاجز دونه فلم
تفد محاجزته( ).
* * *
التنقل السريع