القائمة الرئيسية

الصفحات

اسلام عمر ابن الخطاب وهجرته رضي الله عنه



أولاً: إسلامه:



كان أول شعاعة من نور الإيمان لامست قلبه، يوم رأى نساء قريش يتركن
بلدهن ويرحلن إلى بلد بعيد عن بلدهن بسبب ما لقين منه ومن أمثاله، فرق قلبه، وعاتبه
ضميره، فرثى لهن، وأسمعهن الكلمة الطيبة التي لم يكنّ يطمعن أن يسمعن منه مثلها.



قالت
أم عبد الله بنت حنتمة: لما كنا نرتحل مهاجرين إلى الحبشة، أقبل عمر حتى وقف عليّ،
وكنا نلقى منه البلاء والأذى والغلظة علينا، فقال لي: إنه الانطلاق                  يا أم عبد الله؟ قلت نعم،
والله لنخرجنّ في أرض الله، آذيتمونا وقهرتمونا، حتى يجعل الله لنا فرجاً. فقال
عمر: صحبكم الله. ورأيت منه رقة لم أرها قط. فلما جاء عامر بن ربيعة وكان قد ذهب في
بعض حاجته وذكرت له ذلك فقال: كأنك قد طمعت في إسلام عمر؟ قلت له: نعم فقال: إنه لا
يسلم حتى يسلم حمار الخطاب


لقد
تأثر عمر من هذا الموقف وشعر أن صدره قد أصبح ضيقاً حرجاً؛ فأي بلاء يعانيه أتباع
هذا الدين الجديد، وهم على الرغم من ذلك صامدون! ما سر تلك القوة الخارقة؟ وشعر
بالحزن وعصر قلبه الألم،
وبعد هذه الحادثة بقليل أسلم عمر رضي الله عنه وبسبب دعوة رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فقد
كانت السبب الأساسي في إسلامه فقد دعا له بقوله: اللهم أعزَّ الإسلام بأحب الرجلين
إليك: بأبي جهل بن هشام، أو بعمر بن الخطاب، قال: وكان أحبهما إليه عمر
وقد ساق الله الأسباب لإسلام عمر رضي الله عنه، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما
قال:  ما سمعت عمر لشيء قط يقول: إني لأظنه
كذا إلا كان كما يظن، بينما عمر جالس إذ مرّ به رجل جميل، فقال عمر: لقد أخطأ ظني،
أو إن هذا على دينه في الجاهلية، أو لقد كان كاهنهم. عليّ بالرجل، فدُعي له، فقال
له ذلك. فقال: ما رأيت كاليوم استُقبل به رجلٌ مسلم. قال: فإني أعزم عليك إلا ما
أخبرتني.


قال:
كنت كاهنهم في الجاهلية.



قال:
فما أعجب ما جاءتك به جنِّيَّتُك؟ قال: بينما أنا يوماً في السوق جاءتني أعرف فيها
الفزع فقالت: ألم تر الجن وإبلاسه،
ويأسها من بعد إنكاسها،
ولحوقها بالقلاص، وأحلاسها.



قال عمر: صدق، بينما أنا نائم عند آلهتهم، إذ جاء رجل بعجل فذبح، فصرخ
به صارخ، لم أسمع صارخاً قط أشد صوتاً منه يقول: يا جليح،
أمر نجيح، رجل فصيح، يقول: لا إله إلا الله. فقمت، فما نشبنا
أن قيل: هذا نبي
وقد ورد في سبب إسلام الفاروق رضي الله عنه الكثير من الروايات، ولكن بالنظر إلى
أسانيدها من الناحية الحديثية فأكثرها لا يصح،
ومن خلال الروايات التي ذكرت في كتب السيرة والتاريخ يمكن تقسيم إسلامه والصدع به
إلى عناوين منها.


1- عزمه على قتل رسول الله:


كانت
قريش قد اجتمعت فتشاورت في أمر النبي
صلى الله عليه وسلم
فقالوا: أي رجل يقتل محمداً؟ فقال عمر بن الخطاب: أنا لها، فقالوا: أنت لها يا عمر،
فخرج في الهاجرة، في يوم شديد الحر، متوشحاً سيفه يريد رسول الله ورهطاً من أصحابه،
فيهم أبو بكر وعلي وحمزة رضي الله عنهم في رجال من المسلمين ممن كان أقام مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم بمكة ولم يخرج فيمن خرج إلى أرض الحبشة، وقد ذكروا له أنهم
اجتمعوا في دار الأرقم في أسفل الصفا. فلقيه نُعَيم بن عبد الله النّحّام. فقال:
أين تريد يا عمر؟ قال: أريد هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش وسفّه أحلامها، وعاب
دينها، وسب آلهتها، فأقتله. قال له نُعَيم: لبئس الممشى مشيت يا عمر، ولقد والله
غرّتك نفسك من نفسك، ففرّطت وأردت هلكة بني عديّ، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي
على الأرض وقد قتلت محمداً؟ فتحاورا حتى علت أصواتهما، فقال عمر: إني لأظنك قد صبوت
ولو أعلم ذلك لبدأت بك، فلما رأى النَّحَّام أنه غير مُنْتَه قال: فإني أخبرك أن
أهلك وأهل ختَنك قد أسلموا وتركوك وما أنت عليه من ضلالتك، فلما سمع مقالته قال:
وأيهم؟ قال: خَتَنك وابن عمك وأختك.


2- مداهمة عمر بيت أخته وثبات فاطمة بنت الخطاب أمام
أخيها:


لما
سمع عمر أن أخته وزوجها قد أسلما احتمله الغضب وذهب إليهم فلما قرع الباب قالوا: من
هذا؟ قال: ابن الخطاب. وكانوا يقرؤون كتاباً في أيديهم، فلما سمعوا حس عمر قاموا
مبادرين فاختبئوا ونسوا الصحيفة على حالها، فلما دخل ورأته أخته عرفت الشر في وجهه،
فخبأت الصحيفة تحت فخذها قال: ما هذه الْهَيْنَمَة والصوت الخفي التي سمعته
عندكم؟  وكانوا يقرؤون طه  فقالا: ما عدا حديثاً تحدثناه بيننا. قال:
فلعلكما قد صبوتما، فقال له ختنه: أرأيت يا عمر إن كان الحق في غير دينك؟ فوثب عمر
على ختنه سعيد وبطش بلحيته فتواثبا، وكان عمر قوياً شديداً، فضرب بسعيد الأرض ووطئه
وطأ ثم جلس على صدره، فجاءت أخته فدفعته عن زوجها فنفحها نفحة بيده، فدمى وجهها،
فقالت وهي غضبى: يا عدو الله، أتضربني على أن أوحّد الله؟ قال: نعم. قالت: ما كنت
فاعلاً فأفعل، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، لقد أسلمنا على رغم
أنفك، فلما سمعها عمر ندم وقام عن صدر زوجها، فقعد، ثم قال: أعطوني هذه الصحيفة
التي عندكم فأقرأها، فقالت أخته: لا أفعل. قال: ويحك قد وقع في قلبي ما قلت،
فأعطينيها أنظر إليها، وأعطيك من المواثيق أن لا أخونك حتى تحرزيها حيث شئت. قالت:
إنك رجس فـ
} لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ
{ فقم فاغتسل أو توضأ، فخرج عمر ليغتسل ورجع إلى أخته فدفعت إليه
الصحيفة وكان فيها طه وسور أخرى فرأى فيها:


بسم
الله الرحمن الرحيم


فلما مرّ بالرحمن الرحيم ذعر، فألقى الصحيفة من يده، ثم رجع إلى نفسه
فأخذها فإذا فيها:
} طه1 مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ
لِتَشْقَى2 إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى3 تَنزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأرض
وَالسَّمَواتِ الْعُلاَ4 الرحمن عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى5 لَهُ مَا فِي
السَّمَواتِ وَمَا فِي الأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى6 وَإِنْ
تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى7 اللَّهُ لاَ إِلَهَ
إِلاَّ هُوَ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى8
{. طه،الآيات:1-8


فعظمت
في صدره. فقال: من هذا فرّت قريش؟ ثم قرأ. فلما بلغ إلى قوله تعالى:    
} إنّني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري. إن
الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها
واتبع هواه فتردى
{ طه،الآيات:14،15،16.


قال:
ينبغي لمن يقول هذا أن لا يُعبد معه غيره دلوني على محمد.


3- ذهابه لرسول الله وإعلان إسلامه:


فلما
سمع خبّاب رضي الله عنه ذلك خرج من البيت وكان مختفياً وقال أبشر يا عمر، فإني أرجو
أن تكون قد سبقت فيك دعوة رسول الله
صلى الله عليه وسلم يوم
الإثنين:  اللهم أعز الإسلام بأحب هذين
الرجلين إليك: بأبي جهل بن هشام، أو بعمر بن الخطاب  .


قال:
دلوني على مكان رسول الله، فلما عرفوا منه الصدق قالوا: هو في أسفل الصفا. فأخذ عمر
سيفه فتوشّحه ثم عمد إلى رسول الله وأصحابه فضرب عليهم الباب، فلما سمعوا صوته
وَجِلوا ولم يجترئ أحد منهم أن يفتح له، لما قد علموا من شدته على رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فلما رأى حمزة رضي الله عنه وجَلَ القوم قال: مالكم؟ قالوا عمر بن
الخطاب قال: عمر بن الخطاب؟ افتحوا له، فإن يرد الله به خيراً يُسلم، وإن يرد غير
ذلك يكن قتله عليناً هيناً، ففتحوا، وأخذ حمزة ورجل آخر بعضديه حتى أدخلاه على رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فقال أرسلوه،
ونهض إليه رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأخذ
بحجزته،
وبجمع ردائه ثم جبذه جَبْذَة شديدة، وقال: ما جاء بك
يا ابن الخطاب؟ والله ما
أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة، فقال له عمر:
يا رسول الله جئتك أؤمن
بالله وبرسوله وبما جئت به من عند الله، قال: فكبّر رسول الله
صلى الله عليه وسلم فعرف
أهل البيت من أصحاب رسول الله أن عمر قد أسلم، فتفرق أصحاب رسول الله من مكانهم وقد
عزّوا في أنفسهم حين أسلم عمر مع إسلام حمزة بن عبد المطلب، وعرفوا أنهما سيمنعان
رسول الله، وينتصفون بهما من عدوهم.


4- حرص عمر على الصدع بالدعوة وتحمله الصعاب في
سبيلها:



دخل
عمر في الإسلام بإخلاص متناهٍ، وعمل على تأكيد الإسلام بكل ما أوتي من قوة، وقال
لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا؟
قال صلى الله عليه وسلم: بلى، والذي نفسي بيده إنكم على الحق، إن متّم وإن حييتم.
قال: ففيمَ الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق لَتَخرجنّ وكان الرسول صلى الله عليه وسلم
على ما يبدو قد رأى أنه قد آن الأوان للاعلان، وأن الدعوة قد غدت قوية تستطيع أن
تدفع عن نفسها، فأذن بالاعلان، وخرج صلى الله عليه وسلم في صفَّيْن، عمر في أحدهما،
وحمزة في الآخر ولهم كديد ككديد الطحين،
حتى دخل المسجد، فنظرت قريش إلى عمر وحمزة فأصابتهم كآبة لم تصبهم قط وسمّاه رسول
الله صلى الله عليه وسلم يومئذ الفاروق.


لقد أعز الله الإسلام، والمسلمين بإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه،
فقد كان رجلاً ذا شكيمة لا يرام ما وراء ظهره وامتنع به أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم وبحمزة.



وتحدى
عمر بن الخطاب رضي الله عنه مشركي قريش: فقاتلهم حتى صلى عند الكعبة،
وصلى معه المسلمون، وحرص عمر رضي الله عنه على أذية أعداء الدعوة بكل ما يملك،
ونتركه يحدثنا عن ذلك بنفسه قال رضي الله عنه: كنت لا أشاء أن أرى رجلاً من
المسلمين، فذهبت إلى خالي أبي جهل – وكان شريفاً فيهم – فقرعت عليه الباب، فقال: من
هذا؟ قلت ابن الخطاب . فخرج إليّ فقلت: أعلمت أني قد صبوت؟ قال: فعلت؟ قلت: نعم.
قال: لا تفعل. قلت: بلى‍! قال: لا تفعل ثم دخل وأجاف الباب أي رده دوني وتركني.
قلت: ما هذا بشيء. فذهبت إلى رجل من أشراف قريش فقرعت عليه بابه، فقيل: من هذا؟
قلت: ابن الخطاب فخرج إليّ، فقلت: أشعرت أني صبوت؟ قال: أفعلت؟ قلت: نعم. قال: لا
تفعل، ودخل فأجاف الباب دوني، فقلت: ما هذا بشيء، فقال لي رجل: أتحب أن يُعلم
إسلامك؟ قلت: نعم. قال: إذا جلس الناس في الحِجْر، جئتَ إلى ذلك الرجل جميل بن معمر
الجمحي فجلست إلى جانبه وقلت: أعلمت أني صبوت؟ فلما جلس الناس في الحِجْر فعلت ذلك،
فقام فنادى بأعلى صوته: إن ابن الخطاب قد صبأ. وثار إليّ الناس يضربونني وأضربهم
. وفي رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: لما أسلم عمر لم تعلم قريش
بإسلامه، فقال: أي أهل مكة أنقل للحديث؟ قيل له جميل بن معمر الجُمحي. فخرج إليه
وأنا معه أتبع
أثره، وأنظر ما يفعل، وأنا غلام أعقل كلّما رأيت وسمعت. فأتاه
فقال: يا جميل إني قد أسلمت فوالله ما ردّ عليه كلمة حتى قام يجرّ رداءه، وتبعه عمر
واتبعت أبي، حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش: وهم في
أنديتهم حول الكعبة ألا إنَّ عمر بن الخطاب قد صبأ. وعمر يقول من خلفه: كذب ولكنني
أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. فثاروا إليه، فوثب عمر على
عتبة بن ربيعة، فبرك عليه وجعل يضربه، وأدخل إصبعيه في عينيه، فجعل عُتبة يصيح،
فتنحى الناس عنه، فقام عمر فجعل لا يدنو منه أحد إلا أخذ شريف من دنا منه، حتى أحجم
الناس عنه، واتبع المجالس التي كان يجلسها بالكفر فأظهر فيها الإيمان]،
وما زال يقاتلهم حتى ركدت الشمس على رؤوسهم وفتر عمر وجلس، فقاموا على رأسه، فقال:
افعلوا ما بدا لكم، فوالله لو كنا ثلاثمائة رجل لتركتموها لنا، أو تركناها لكم.
فبينما هم كذلك إذ جاء رجل عليه حلة حرير وقميص مُوّشّى، قال: ما بالكم؟ قالوا: ابن
الخطاب قد صبأ. قال: فمه؟ امرؤا اختار ديناً لنفسه، أتظنون أن بني عديّ يُسلمون
إليكم صاحبهم، فكأنما كانوا ثوباً انكشف عنه، فقلت له بالمدينة: يا أبت من الرجل
ردّ عنك القوم يومئذ؟ قال: يا بني، ذاك العاص بن وائل السهمي.


5- أثر إسلامه على الدعوة:



قال
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر، ولقد رأيتنا        وما نستطيع أن نطوف بالبيت ونصلي، حتى
أسلم عمر، فلما أسلم قاتلهم حتى تركونا، فصلينا وطفنا.
وقال أيضاً: كان إسلام عمر فتحاً، وكانت هجرته نصراً، وكانت إمارته رحمة، لقد
رأيتنا وما نستطيع أن نصلي ونطوف بالبيت حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتلناهم حتى
تركونا نصلي
وقال صهيب بن سنان: لما أسلم  عمر بن
الخطاب، ظهر الإسلام، ودعي إليه علانية، وجلسنا حول البيت حلقاً، وطفنا بالبيت
وانتصفنا ممن غلظ علينا ورددنا عليه.


ولقد صدق في عمر رضي الله عنه قول
القائل:

















أعني به الفاروق فرّق عنوةً







بالسيف بين الكفر والإيمان



هو أظهر الإسلام بعد خفائه







ومحا الظلام وباح بالكتمان[28]




6- تاريخ إسلامه وعدد المسلمين يوم
أسلم:


أسلم
عمر رضي الله عنه في ذي الحجة من السنة السادسة من النبوة، وهو ابن  سبع وعشرين سنة،
وكان إسلامه بعد إسلام حمزة رضي الله عنه بثلاثة أيام[]،
وكان المسلمون يومئذ تسعة وثلاثين: قال عمر رضي الله عنه: لقد رأيتني وما أسلم مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تسعة وثلاثون رجلاً فكملتهم أربعين، فأظهر الله
دينه، وأعز الإسلام، وروي أنهم كانوا أربعين أو بضعة وأربعين رجلاً وإحدى عشرة
امرأة، ولكن عمر لم يكن يعرفهم كلهم لأن غالب من أسلم كان يخفي إسلامه خوفاً من
المشركين، ولا سيما عمر فقد كان عليهم شديداً فذكر أنه أكملهم أربعين ولم يذكر
النساء لأنه لا إعزاز بهن لضعفهن[31].


ثانياً: هجرته:



لما
أراد عمر الهجرة إلى المدينة أبى إلا أن تكون علانية يقول ابن عباس رضي الله عنهما:
قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ما علمت أن أحداً من المهاجرين هاجر إلا
متخفياً، إلا عمر بن الخطاب، فإنه لما همّ بالهجرة، تقلد سيفه، وتنكّب قوسه، وانتضى
في يده أسهماً، واختصر عنزته،
ومضى قبل الكعبة، والملأ من قريش بفنائها، فطاف بالبيت سبعاً متمكناً، ثم أتى
المقام، فصلى متمكناً، ثم وقف على الحلق واحدة، واحدة، فقال لهم: شاهت الوجوه، لا
يُرغم الله إلا هذه المعاطس]،
من أراد أن تثكله أمه، ويوتم ولده، أو يرمل زوجه فليلقني وراء هذا الوادي. قال
عليُّ رضي الله عنه: فما تبعه أحد إلا قوم من المستضعفين علمهم، وأرشدهم ومضى
لوجهه.


وكان
قدوم عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى المدينة قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم
إليها، وكان معه من لحق به من أهله وقومه، وأخوه زيد بن الخطاب، وعمرو وعبد الله
ابنا سراقة بن المعتمر، وخنيس بن حذافة السهمي، زوج ابنته حفصة، وابن عمه سعيد بن
زيد، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وواقد بن عبد الله التميمي، حليف لهم، وخولى
بن أبي خولى، ومالك بن أبي خولى، حليفان لهم من بني عجل  وبنو البكير، وإياس وخالد، وعاقل، وعامر،
وحلفاؤهم من بني سعد بن ليث، فنزلوا على رفاعة بن عبد المنذر في بني عمرو بن عوف
بقباء[.



يقول
البراء بن عازب رضي الله عنه: أول من قدم علينا مصعب بن عمير،            وابن أبي مكتوم، وكانوا يُقرئون الناس،
فقدم بلال، وسعد، وعمار بن ياسر، ثم قدم عمر بن الخطاب في عشرين نفراً من اصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قدم النبي صلى الله عليه وسلم، فما رأيت أهل المدينة
فرحوا بشيء فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم.


وهكذا
ظل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خدمة دينه وعقيدته بالأقوال والأفعال لا يخشى في
الله لومة لائم وكان رضي الله عنه سنداً ومعيناً لمن أراد الهجرة من مسلمي مكة حتى
خرج، ومعه هذا الوفد الكبير من أقاربه وحلفائه، وساعد عمر رضي الله عنه غيره من
أصحابه الذين يريدون الهجرة وخشي عليهم من الفتنة والابتلاء في أنفسه،
ونتركه يحدثنا بنفسه عن ذلك حيث قال: اتعدت لما أردنا الهجرة إلى المدينة أنا وعياش
بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص بن وائل السهمي، التناضب،
من أضاءة
بني غفار، فوق سَرِف،
وقلنا: أينا لم يصبح عندها فقد حُبس فليمض صاحباه. قال: فأصبحت أنا وعياش بن أبي
ربيعة عند التَّناضب، وحُبس عنا هشام، وفُتن فافتتن،
فلما قدمنا المدينة نزلنا في بني عمرو بن عوف بقباء، وخرج أبو جهل بن هشام والحارث
بن هشام إلى عيّاش بن أبي ربيعة، وكان ابن عمهما وأخوهما لأمهما، حتى قدما علينا
المدينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فكلّماه وقالا: إن أمك نذرت أن لا
يمسّ رأسها مُشط حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تراك، فرقّ لها، فقلت له: عياش،
إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك، فاحذرهم، فوالله لو قد آذى أمك
القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظللت. قال: أبرُّ قسم أمي، ولي هناك
مال فآخذه. قال: فقلت: والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالاً، فلك نصف مالي ولا
تذهب معهما. قال: فأبى عليُّ إلا أن يخرج معهما، فلما أبى إلا ذلك، قال: قلت له:
أما إذ قد فعلت ما فعلت، فخذ ناقتي هذه، فإنها ناقة نجيبة ذلو،
فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانج عليها فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا
ببعض الطريق قال له أبو جهل: يا أخي، والله لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تُعقبني
على ناقتك هذه؟ قال: بلى. قال: فأناخ، وأناخ، ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض
عدوا عليه، فأوثقاه، ثم دخلا به مكة، وفتناه فافتتن.
قال: فكنا نقول: ما الله بقابل ممن افتتن صرفاً ولا عدلاً ولا توبة، قوم عرفوا الله
ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم قال: وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم فلما قدم رسول
الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله تعالى فيهم وفي قولنا وقولهم لأنفسهم:
} قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ
تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا
إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ53 وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا
لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ54
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ55 
{ الزمر، الآيات:
53-55.



قال عمر بن الخطاب: فكتبتها بيدي في صحيفة، وبعثت بها إلى هشام بن العاص
قال: فقال هشام: فلما أتتني جعلت أقرؤها بذي طوى،
أصَعَّد بها فيه، وأصَوَّبُ، ولا أفهمها حتى قلت: اللهمّ فهِّمنيها، قال: فألقى
الله في قلبي أنها إنما أنزلت فينا، وفيما كنا نقول في أنفسنا ويقال فينا. قال:
فرجعت إلى بعيري فجلست عليه، فلحقت برسول الله وهو بالمدينة.


هذه
الحادثة تظهر لنا كيف أعد عمر رضي الله عنه خطة الهجرة له، ولصاحبيه عياش بن أبي
ربيعة وهشام بن العاص بن وائل السهمي، وكان ثلاثتهم كل واحد من قبيلة، وكان مكان
اللقاء الذي اتعدوا فيه بعيداً عن مكة وخارج الحرم على طريق المدينة، ولقد تحدد
الزمان والمكان بالضبط بحيث إنه إذا تخلف أحدهم فليمض صاحباه ولا ينتظرانه، لأنه قد
حبس، وكما توقعوا، فقد حبس هشام بن العاص رضي الله عنه بينما مضى عمر وعياش
بهجرتهما ونجحت الخطة كاملة ووصلا المدينة سالمين
إلا أن قريشاً صممت على متابعة المهاجرين ولذلك أعدت خطة محكمة قام بتنفيذها
أبو جهل، والحارث وهما أخوا عياش من أمه، الأمر الذي جعل عياشاً يطمئن إليهما،
وبخاصة إذا كان الأمر يتعلق بأمه، فاختلق أبو جهل هذه الحيلة لعلمه بمدى شفقة ورحمة
عياش بأمه، والذي ظهر جلياً عندما أظهر موافقته على العودة معهم، كما تظهر الحادثة
الحس الأمني الرفيع الذي كان يتمتع به عمر رضي الله عنه، حيث صدقت فراسته في أمر
الاختطاف
كما يظهر المستوى العظيم من الأخوة التي بناها الإسلام فعمر يضحي بنصف ماله
حرصاً على سلامة أخيه، وخوفاً عليه من أن يفتنه المشركون  بعد عودته،
ولكن
غلبت عياش عاطفته نحو أمه، وبره بها ولذلك قرر أن يمضي لمكة فيبر قسم أمه ويأتي
بماله الذي هناك، وتأبى عليه عفته أن يأخذ نصف مال أخيه عمر رضي الله عنه وماله
قائم في مكه لم يمس، غير أن أفق عمر رضي الله عنه كان أبعد، فكأنه يرى رأي العين
المصير المشؤوم الذي سينزل بعياش لو عاد إلى مكة، وحين عجز عن إقناعه أعطاه ناقته
الذلول النجيبة، وحدث لعياش ما توقعه عمر من غدر المشركين.


وساد
في الصف المسلم أن الله تعالى لا يقبل صرفاً ولا عدلاً من هؤلاء الذين فتنوا
فافتتنوا وتعايشوا مع المجتمع الجاهلي فنزل قول الله تعالى:
} قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ
تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ …
{ وما أن نزلت هذه الآيات حتى سارع الفاروق رضي الله عنه فبعث بها
إلى أخويه الحميمين عياش وهشام ليجددا محاولاتهما في مغادرة معسكر الكفر. أي سمو
عظيم عند ابن الخطاب رضي الله عنه. لقد حاول مع أخيه عياش، أعطاه نصف ماله على أن
لا يغادر المدينة، وأعطاه ناقته ليفر عليها ومع هذا كله، فلم يشمت بأخيه، ولم
يتشفَّ منه لأنه خالفه، ورفض نصيحته، وألقى برأيه خلف ظهره، إنما كان شعور الحب
والوفاء لأخيه هو الذي يسيطر عليه، فما أن نزلت الآية حتى سارع ببعثها إلى أخويه من
مكة وإلى كل المستضعفين هناك ليقوموا بمحاولات جديدة للانضمام إلى المعسكر
الإسلامي.



هذا وقد نزل عمر بالمدينة، وأصبح وزير صدق لرسول الله صلى الله عليه
وسلم، وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين عويم بن ساعدة،
وقيل بينه وبين عتبان بن مالك
وقيل بينه وبين معاذ بن عفراء
وقد علق ابن عبد الهادي على ذلك وقال: لا تناقض بين الأحاديث ويكون رسول الله صلى
الله عليه وسلم قد آخى بينه وبين كل أولئك في أوقات متعددة، فإنه ليس بممتنع أن
يؤاخي بينه وبين كل أولئك في أوقات متعددة


التنقل السريع